أسبقهم بالطلب...!
الكثرة من الناس تفضي إلى القلة، والرغبة في الكثير تفضي إلى القليل، والحرمان منهم بمقدار الرغبة فيهم، والألم بمقدار الرجاء والتوقع، فقليل شكور، وأقل منه من يغالب شح نفسه، ومن يصدقك مودته عند حاجتك إليه، أو يرحمك عند طلبك منه، إن طلبت من قريب تجهمك وأبغضتك نفسه، وإن طلبت غريبا طردك وأبعدك، وإن نلت عطية أستعطيتها من أحد، أصابك منها الكثير من المن والكثير من المهانة والذل الحاضر والتعيير المؤجل.
أسبقهم بالطلب..! كانت وصيتي لصاحبي الذي أستشارني في وسيلة يحفظ بها ملايينه الثلاثة التي ورثها من أبيه ولا سبيل إليه لجمع لغيرها، ويخشى عليها أسنان الدين ممن لا وفاء له..!.
أستقرضهم فإن حاجتك لمن حولك تجلي بصر قلبك، وتباعد من أستجلبهم الطمع فيك، وينجلي الزبد ويمكث بالقرب منك من ينفعك ومن أنت بحاجة إليه وحده، ومن هو جدير بكرمك وعطيتك إن أحوجته المقادير إليك..!.
وبعد رسالة الطلب منه للكثير من حوله لحاجة عرضت عجز عن قضائها، وأسلمه قدره للضعف عنها، أبدى فيها الضنى، وثقل الأحمال وحزن السوافح بلا أحد وبلا نصير..!.
عاد صاحبي وفي قلبه القلة المؤتمنة الأمينة بما يكفي على قلبه حبه ومشاعره وماله أيضا.. تباعدت الكثرة المحمولة بالتملق الزائف والمشاعر المغشوشة، والحضور الموارب، تباعد الذين لا مكان للحب لغير أنفسهم في قلوبهم، توقف تدفق رسائل التحايا والمودة!
توقف كل شيء، تجاهله الجميع، تحول إلى ماض أو شيئا يشبهه، ميتا أو شيئا يقترب منه، التجاهل تتعدد فيه الأوجه ولكنه يتعاظم حتى يكتمل بحقه.
قلتُ له: حين إذ أن يفتح يقين قلبه بالمخلصين له وأن يدخل فيه طيلة ما بقي من عمره، أن يكن وفيا لمن أستجاب له ولمن وجده قريبا عندما أحتاج إليه، أن يتنعم بهذه الأرواح الصادقة رغم قلتها ونذرتها ممن حوله، أن يشكر الله ويديم حمده، لرفع الغشاوة وللبصر بعد العمى، فقد وعيت الآن لون الضوء، وتكاثفت على قلبك أطايب الثمر، وكل الذي تجلى عليك من حقائق من حولك، وردك الله ردا كريما إلى الصفوة الصافية، وأبعدك عن سراب بصرك المغشوش.
إن الله برحمته يبعث الصواعق للغابة، حين تضعف عن كثرة ديدانها ويتعاظم العجز في تربتها، ويحتجب الضوء عن صغار شجرها، حتى تصيرها النار بما فيها إلى خصوبة شروب نهمة سريعة الحبل من كل بذرة.
غاية هذه التجارب وأمثالها، أن لا تقرب إليك من لا يؤتمن على هذا القرب منك، ومن لا يستحق أن يناله، وأن لا تبعد عنك من تظلم نفسك بحرمانك من إخلاص حبه لك، وأن لا تحرم عطيتك من أنت ذخيرته في الدنيا، وأمله ورجاءه دون الناس جميعا، وأن لا تخذل رجاء مخلص فيك بمقدار أن لا تمنح مالك من لا يؤتمن عليه. وإن لكل باطن ظاهر يفصح عنه ويشير إليه. وتظل على الدوام بحاجة إلى أن تحسس الطريق قبل بلوغ المنتهى.. ملح أجاج أم عذب فرات؟
كلاهما ماء ولكن الطبائع تختلف أولهما يقتل والثاني به حياة كل حي.. وبه يتطهر كل شيء حوله.