إصابة الرحمة...!
كل شيء هو أصل ذاته، كل موقف هو صاحبه، وكل فعل هو فاعله، فقلوبنا تتسع كما يكبر ويتسع الغصن لما بداخى له لتنضج به حوامله وثماره، في مشهد يتكرر أمام أعيننا غالبا، «في البرازيل» وقف بائع متجول بين يدي موظف البلدية ورجال الشرطة، مسلوبا تائها ضعيفا عاجزا ينظر بعين غير حصينة على دموعه إلى خبزه «الكعك» يترقب أنتهابه ومصادرته، جسد ضامر وفقر غالب وذل حاضر.
من يعيش الرحمة في قلبه لا يتصور أعماقها.. ولا يحيط بالضرورة بدرجة النقاء التي تنعكس على لسانه وفعله.. أنحنت أول أمرأة رحيمة القلب على كعكه المتراكم ورفعت منه ثلاث قطع، وأعطته ثمنها بسرعة، أنصب الحاضرون عليه بأيدي تحمل ثمن خبزه وترفعه من صندوقه!.
سقطت المصادرة، وسقط الضبط، وسقطت العقوبة، وسقطت لحظة الهوان عن ضعيف عاجز، لقد صادف ضعفه وعجزه وفقره، رحماء كانوا بالقرب منه فنال منهم ما يستحق من الرحمة والرأفة والعطية.
كل عاجز يفضح الأقربين منه، كل فقير يُخبر عن نفوس أهله، كل سائل بصدق حاجة هو نبأ وفاة الكرم والرحمة في قريته وعند عشيرته الأقربين.
الله سبحانه يصيب برحمته وخيره من يشاء، وهي عبارة نقية منتقاة للدلالة على معناها الذي تبتغيه لأنها تقصد مرحوما بعينه فلا تخطئه إلى غيره ولا تتجاوزه وإليه تنقاد الأسباب مستجيبة، وتغمره الرحمة بالرزق والبركة حتى يفيض منها على الضعفاء والمعوزين من حوله.
إذا أستقر قلبك على قسوة.. فلا تذهب بعيدا عنها، إنها عقوبة لقلة الرحمة فيه، أو لغلبة الظلمة عليه، أو لسلطان الشهوة منه، أو لبعده عن ربه، أو لقلة ذكره، ودائما القلب الذي لا تحضره الرحمة لا ثمن له عند الله فيعاقبه بالقسوة والإعراض عنه.
أغترف لقلبك رحمة في كل يوم بعطية تسقي بها ظمأ مستتر بفقره، بدفع غائلة جوع يغالبه عجز صاحبه عنه، برفعة ساقط خذله من حوله بإغماض عين عن خطيئته.
رب رحم لك لا يطاوعه لسانه في الطلب منك، رب صديق محب أذله دينه، رب أعمى بالهم والغم تتحسس يده من يقبض عليها حنانا وهديا..!
إن هذه سبل لا يُراد منها في خواتيم العاقبة والمآل أن تُنعم أنت على المرحومين، ومن تنالهم عطاياك، وتُسبغ عليهم من نعمتك، بقدر ما ترفعك أنت إلى قدر من إنسانيتك لن تناله بدونها ولست ببالغ مرتبة إصابة رحمة الله لك بدونها. في حقيقة الأمر نفسك تُعطي، وعليها تتصدق، وإليها بكل هذا تنعم وتحسن.
فلا سبيل لبلاغ مرتبة الأختصاص بالرحمة «يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم» 74 آل عمران. هذا منتهى أمل الآملين أن يختصك الله برحمته..!. يظهر في علم الحقائق أنك بحاجة إلى أن تحصي لفتات قلبك تباعدها عن القسوة على كل ضعيف، أو الشماتة بمكسور، وأن تراقب نواياك وما تؤول إليه، أن تسقي عذبا يباس عوز المعوزين حولك، أن تجبر كل مكسور بما تسطيعه وبما تقدر عليه.. لا سبيل إلى النقاء وأختصاص الله لك برحمته ونظره إليك، إلا بالإرتفاع إليه بقلبك وقد صيرته غذقا رحيما يروي بعذوبته قلوب الخلق من حولك، وحين إذ يغمرك ما لا يوصف بقول ولا تستوفيه عبارة.