مشاريع غير مكتملة
عندما تكون مساعينا في مُجملها مساع ارتجالية غير مُتْقَنَة، فمن الطبيعي أن تنتهي حياتنا إلى آخر لحظة فيها، كمشَاريعَ غير منتهية، وإن كانت زاخرة بالأعمال والمهام ومُشْبعة بالعلاقات والروحانيات. في عالم يتصف بالسرعة، فإننا وإن خالجنا اعتقاد بأن زمام الأمور في قبضتنا وتحت تحكّمنا، وأن هذا هو منتهى ما يُمْكننا فعله، فإن حالنا سيبقى على ما هو عليه دُون أن نتمكن من تحقيق تقدم يُذْكر في مشاريعنا الفردية والمجتمعية على وَجْهٍ سواء.
الكل يسارع الخُطى ويُريدُ أن يصل أوّلًا. لم تعد اللحظة الراهنة تعني شيئًا لأحد. فالسائق خلف مقوده يُسابق الزمن ليصل إلى وجهته دونما التفاتةٍ مسؤولة تُنبئه عن نوعية المخاطر التي يُمكن أن يُخَلّفها، أو المكاسب التي قد يجنيها لو تأنى ووظف حواسّه وفكره في كل لحظة قضاها في رحلته تلك. الكاتب هو الآخر يُزَاحم بنات أفكاره ويُصارع الزمن ليُخْرج مقالته إلى قُرّاءه في وقت قياسي، حتى يحرز تقدمًا على قائمة الكتّاب الأغزر إنتاجًا، ودون أن يلتفت إن كانت مقالته تحمل قيمةً أدبيةً أو فكرية.
أليست هذه هي حقيقة الحياة لكثير من البشر اليوم؟ ركضٌ ولهثٌ وبحث مستمر عن المزيد من المكاسب الدنيوية ودون أن تكون هناك ما يمكن أن نسميها استراحة محارب. تبارك الله نجري كُلّنا زُمرآ … نحو المنون ولا يبقى سوى الصَمَدِ § فقل لمن يعشق الدنيا.. أتخطبُها … وهي الولود.. وغير الموت لم تلدِ؟ الشاعر المرحوم غازي القصيبي.
أمّا سيد البلغاء وإمام المُتّقين علي له قولّ آخر ومنظورّ قد يهوّن على ما قد يعتقده البعض أن هذه هي نهاية النهايات، فيقول: هوّن الأمر تعش في راحةٍ … كلّ ما هوّنت إلا سيهون § ليس أمر المرء سهلًا كُلّه … إنما المرء سُهول وحزون § تطلب الراحة في دار العَنَا … خاب من يطلب شيئًا لا يكون.
الحياة في واقعها خطوات متتابعة، والأشياء فيها تُنْجَزُ تدريجيا، فلا يمكنك عمل كوب الشاي في خطوة واحدة، وإلا تحول إلى شيء آخر لا يُسْتَساغ. قَطْع الثَمَر من الشجرة قبل أوانه يُفْقده الكثير من مُواصفاته الذوقية والغذائية. أما حَجَرُ الماس في أصلها، لا تعني الكثير لغير ذوي التخصص، فهي إلى حد كبير قطعة من الزجاج الخام الذي بقي آلاف السنين تحت الأرض ولم يلتفت إليه أحد. لكن انظر كيف تحول هذا الحجر الخشن، بعد مراحل من الصقل إلى جوهرة تستفز الكثير من عقول الجَوَاهرْجيّة قبل أن تفتتن السيدات بجماله ويظفرن في آخر المطاف بِتَملّكه والتَزَيّن به.
ليوناردو دافنشي أشهر رسام في التاريخ قال ذات مرة ”الفن لن ينتهي أبدا، فقط يتم إهماله“ ويسترسل ليقول ”تمامًا كما يَصْدأ الحديد عندما يُهْمَل، فإن الخُمُول عن العمل يُتْلف العقل“. يبقى التحدي مُرْتهنٌ بإرادة الفنان، ونحن جميعًا نَخلق فنًا ما بقينا على مسرح الحياة. أمعن النظر والسمع إلى كل من يَميل لهم قلبك، حتي لا تفوتك فرصة قد لا يعوضها الزمن، واعلم أن كل لحظة تعيشها لها قيمتها التي تنفرد بها دون غيرها. كل ثانية تمر عليك هي فرصة للإبداع والخلود، استثمرها بعيدا عن التوقعات والنتائج، وقبل فواتها ”فليس في طبع الليالي الأمان“.
الناس في مُجْملهم مشاريع غير مُكتملة، على قلة أو كثرة ما أنجزوا في حياتهم. هم كذلك، لأنهم كانوا يحملون الكثير من الأفكار والأعمال التي كانوا يشرعون القيام بها، إلا أن القدر كان أسرع منهم. وإن هُمْ تركوا غُصَّة وحسرة في قلوب مُحبيهم، إلا أنهم أيضًا أورَثوا تاريخًا مجيدًا حافلًا بالإنجازات على الصعيد الشخصي والمجتمعي، جعلهم سادةً وأيقونات يتحدث عنهم من عاصروهم، وستبقى أعمالهم هي الأخرى تَذْكُرُهُم لسنوات وربما لقرون قادمة.
اسمح لنفسك بالنمو خلال رحلتك الحياتية، وتوقف عن مقارنة إنجازاتك وما حققه الآخرون. جدير بك أيضًا وكما قال الشاعر الفرنسي فيكتور هوجو أن.. «تَحْذَر من المُبالغة، فإن الثقة الزائدة تُصْبحُ غُرورًا، والمَديحُ الزائدُ يُصْبحُ نفاقًا، والتفاؤُلُ الزائد يُصْبحُ سَذَاجَةً».