آخر تحديث: 3 / 12 / 2024م - 7:35 م

أسرها يُوسف..!

الدكتور محمد المسعود

إسرار يعجزنا حمله، ولن نبلغ القدرة عليه، وإن سعت إليه النفوس وتمنته القلوب، هنا جلال رجل أصطفاه الله لنفسه لعظيم طهره، وعفة نفسه، ونقاء قلبه..!

إن سبيل هذا - الإسرار الفريد - لم نأتمن أنفسنا على مثله ولم نسلك الطرق الموصلة إليه، لم نستخبر عن ودائعه ومعانيه، ولم نحتكم فيما نحتكم إليه في شأن..

فهذه منزلة من العفة والطهر لا نفاذ إليها إلا بيقين غالب وإيمان ثابت وقلب ولى وجهه شطر ربه أينما تولى.

هذ بسط لرواية - إسرار يوسف في نفسه - رواية لا تقع على حس إلا وتغشاه الجلال بتمامه..!

قدم معذبوه، والساعون إلى قتله بغلالة حقد لا قاع له ولا مطمع للتوبة منه، الذين باعوه بثمن - كلب أجرب - وكانوا في ثمنه من الزاهدين، «درهمان» محضر إذلال بعنوان سند قبض.

يوسف البض الرقيق ينظر إلى ما لا يعي، وينتهي إلى سمعه ما لا يملك القدرة على فهمه، وقد أدرك أن ليس بوسعه أن ينهي ما به بدأ «أخوته الأشقاء» من وصمه بالمهانة والذل والعبودية طيلة ما بقي من عمره.. وكان البيع سريعا كفعل الأثم الذي يٌخشى إفتضاحه قبل إتمامه.

وطوى الله من عمره خمسة وثلاثين حولا.. تبدلت أحوالا وطوى في طيها أطوارا.. حتى وهبه الله من فضله خزائن وملك مصر العظيم..

وحينها جاء أخوة يوسف من أقصى فقرهم، واقصى ذلهم وأقصى العوز والضعف ومهانة الطلب، وعلى ألسنتهم أستعطاء الذليل الجائع، وطلب الفقير الجشع، وفي أعينهم الرجاء الذي لا رجاء في أحد غيره..!.

إلا أن النفوس هي النفوس..! والقلوب هي القلوب..! وكأن الثلاثين أنسلت من أعمارهم ثلاثين ساعة.. فكان جوابهم عن تهمة سرقة بنيامين «فإن يكن سرق فقد سرق أخ له من قبل». قذف ليوسف الذي يسمعهم الآن في عفته، في أمانته، وهم على ما هم عليه من الذل والهوان والعجز يعودون لقتله معنويا، قتل كرامته، شرفه، طهره، وأثمن ما يملك والذي دفع سبع سنين من عمره ثمنا للحفاظ عليه شرفه وأمانته..! وهاهم المتسولون الطالبون عطفه وكرمه وبعد جنايتهم العظمى بحقه... يتهمونه الآن بالسرقة..!.

أسرها يوسف في نفسه..! وبيده القدرة على العقوبة، أسرها يوسف وهم على بلاط ملكه يرفلون في نعمته لم تزل تحمل دوابهم عطاياه.. وتبره.. وفي جيوبهم يسمع رنين دنانيره..!.

من الواضح أن لعفة نفس يوسف زوايا لم يتوقف عندها المفسرون بعد طول مكوثهم على باب زليخة وقميص طهره الذي أنتصب ببقاياه شاهدا له أن الغواية لا تجوز على القوي الأمين.

أيها السادة!

لقد تم ليوسف نعمة الله عليه، وهنالك في أسمال فقرهم وعوزهم - الساعون - بإرادة واعية بصيرة راشدة في قتله ثم إذلاله وهوانه وعبوديته ويتمه من أبويه حيين..!. يتماثلون أمام عينيه يقذفونه بشرفه ويذيعون بين شعبه تهمة جديدة عليه هي «السرقة» وخيانة الأمانة..!

فيسرها في نفسه شريفا مترفعا، وكريما يجزل العطية.. ويصفهم بأنهم شر في كل مكان ينزلون فيه، وشر في كل مكان هم صائرون إليه، كل شيء يتغير ولكن ليس إلى الأفضل دائما..!.

هل من أحد بوسعه أن «يسر» إسرار يوسف! أن يواري في نفسه ما الناس تبديه، أن يسر لنفسه وحدها ظلم القريب إن ظلم، ونكران المعروف حين ينكر، وتشويه كل جميل فيه. إن قال وأن فعل وإن وهب أو أعطى.! من يصبر على هذا أو بعضه! ومن يقدر على هذا أو بعضه!.

وإن هذا كله يقع ويجري وهو في حول وبيده القدرة والعدل يمنحه العقوبة إن شاء أن يمضيها.. ويشفي صدره، ويلقي بها أحمال قلبه..!

يأوي إلي إسرار لا يقدر عليه غيره.. وترتفع الجمال والبغال مثقلة بعطاياه.. بطيئة الخطى من ثقل كرمه عليها، بعيدة كل البعد عن عقوبته.. نالت كل نفس رضاها من كرمه الغامر..

وأسر لنفسه ما جرى فكل شيء تغير في أخوانه.. وجوههم وأبدانهم وأحوالهم، ما عدى الحقد الأسود في قلوبهم مما يجعلهم «شر في كل مكان ينزلون فيه».

فكان إسرار هو أعظم ما يسر به المرء إلى نفسه..

ظلم الأقربين إليه.. ونكران الجميل منه.. وتشويه كل جميل فيه..!.

فمن منا يقدر أن يسر إلى نفسه.. كما أسرها يوسف في نفسه..!!