قراءة جديدة لأسباب الحركة الاحتجاجية
إن وجود نظم سياسية فاشلة يسهل على الثوار والمحتجين تنفيذ أجنداتهم بسهولة ويسر، ويمكنهم من النجاح.
كثير من الدراسات، في الغرب والشرق، اهتم بموضوع الحركة الاحتجاجية، وقدم تفسيرات عديدة، لأسباب اندلاعها. ويمكن أن نقسم تلك الأسباب إلى قسمين رئيسيين. قسم يرى أن نمو الوعي الشعبي، وتزايد السخط على الحكومات، ونقص الموارد، وانتشار الجوع والفقر والبطالة، والحرمان من أبسط الحقوق، هي التي تؤدي إلى قيام الحركات الاحتجاجية والثورات الاجتماعية.
القسم الآخر، يقر بهذه الأسباب، لكنه يرى أنها ليست كافية لنجاح الثورات والحركات الاحتجاجية، ما لم تنخر عوامل الضعف والشيخوخة والعجز في الأنظمة القائمة. وربما يمثل كتاب الثورات الاجتماعية، للكاتبة الأمريكية ثيدا سكوكبول، أفضل إصدار ضمن الدراسات التي تتبنى هذا النوع من التحليل. إنها ترى أن الثورات الاجتماعية الكبرى، التي أخذت مكانها في فرنسا وإنجلترا وروسيا والصين، ما كان لها أن تنجح أبداً، لو امتلكت الأنظمة السياسية القائمة آنذاك القوة الكافية، على دحر تلك الثورات. ومن وجهة نظرها فإن المشكلة ليست في حراك البناء التحتي، ولكن في عجز البناء الفوقي.
كاتب أمريكي آخر، مشهور بتوجهاته اليسارية، هو عالم اللغويات نعوم تشومسكي، يرى أن العلاقة تكاملية، لنجاح الثورات، والحركات الاحتجاجية. والشرط للنجاح هو وعي شعبي قوي، يسعفه وجود ما يطلق عليه بالدولة الفاشلة. إن وجود نظم سياسية فاشلة يسهل على الثوار والمحتجين تنفيذ أجنداتهم بسهولة ويسر، ويمكنهم من النجاح.
ما يدفعنا لتناول هذا الموضوع، هو اقتراب الذكرى التاسعة لانطلاق الحركة الاحتجاجية العربية، التي تسمّى «الربيع العربي» والتي كانت أحداث تونس في 17 ديسمبر/ كانون الأول عام 2010، بداية انطلاقتها. وقد انتقلت تلك الأحداث كالهشيم، لتشمل ليبيا ومصر واليمن وسوريا.. وقد جمع ما بين هذه الحركات وحدة الشعار «الشعب يريد إسقاط النظام». أما ما عدا ذلك، فإن نتائج وسيرورة تلك الأحداث، اختلفت بشكل كبير، من بلد إلى آخر.
ويجب الاعتراف، في هذا السياق، أن طابع الحراك الاحتجاجي العربي، كان عفوياً منذ بدايته. وذلك يعود بالأساس، إلى التجريف المتعمد للحركة السياسية بالبلدان العربية، التي انطلقت منها الحركات الاحتجاجية، والممتد لعدة عقود. وفي ظل الفراغ والخواء السياسي، لم يكن في الساحة قوى سياسية يمكنها تلقف الحراك الاحتجاجي، واستثماره لصالح أجنداتها، سوى حركات الإسلام السياسي، وهكذا كان..
وكان تسلق الإسلام السياسي للحراك الاحتجاجي، هو المثلب الثاني فيه، لم يقدر له أن يستمر عفوياً، كما كان في بداياته. وهذا هو الأخطر، لقد تحول من حراك شعبي يدعو إلى قيم الحداثة، والحرية والكرامة والمجتمع المدني، وبناء المستقبل، إلى نقيض ذلك تماماً. ذلك أن القوى التي تسلقت هذا الحراك، هي في الأساس معادية لهذه القيم، وهي ماضوية في تفكيرها وجذرية في سلفيتها ورفضها للآخر. وهي أيضاً بحكم تكوينها ترفض الاختلاف وتعادي التوجهات العلمانية، وهي في توجهاتها وتفكيرها تكرس الاستبداد والجهل وضحالة الفكر.
وفي هذا السياق، لا يشذ أي من البلدان العربية، التي انطلقت منها الحركة الاحتجاجية، عن هذه القاعدة. والخلافات بين قوى الإسلام السياسي، حول شكل إدارة الحكم، هي خلافات تكتيكية، لا ترقى إلى الجوهر، بل يفرضها اختلاف درجة تطور الوعي السياسي والاجتماعي من بلد إلى آخر.
فإذا أخذنا تونس على سبيل المثال، وهي نقطة الانطلاق، نجد أن حركة النهضة، في كوادرها المتقدمة، ومكتبها السياسي، قبلت باللعبة الديمقراطية، وتسلمت رئاسة البرلمان وبالتالي الحكومة، لكن ممارساتها على المستوى الشعبي، وتحالفاتها مع بعض قوى التطرف، فضح ادعاءاتها، وعرّى زيف تمسكها بقيم الحداثة، فكانت النتيجة فشلها في أن تحتل المركز الأول في الانتخابات البرلمانية الثانية، وأن يتفوق عليها حزب نداء تونس.
في مصر، لم يتمكن «الإخوان المسلمون» من الاستمرار طويلاً، كانت تجربتهم مع العمل السياسي، في مناخ ليبرالي، أقل من نظرائهم في تونس، وغيبوا كثيراً من التكتيكات التي استخدمتها حركة النهضة، وكانوا متسرعين في قطف ثمار وصولهم إلى السلطة، فكان سقوطهم الكبير.
الأمر الآخر، مهم للغاية، ويتعلق بالكيفية التي اختطف فيها الإسلام السياسي هذا الحراك، وبشكل خاص في ليبيا وسوريا، وتحويله إلى العمل العنفي، الذي وسم بالإرهاب، من قبل الكثير من المراقبين والمحليين السياسيين.
ترى هل كان بإمكان الإسلام السياسي، أن يقود هذا الحراك في سوريا وليبيا واليمن، لو لم ينطلق من الأرياف، حيث البيئة القدرية، وتغوّل الجهل والفقر والتخلف.؟