في التحدي والاستجابة
قانون التحدي والاستجابة بالنسبة للعرب ينبغي أن ينتقل بمفهوم الوحدة العربية، من استعادة الماضي التليد إلى قانون الضرورة، وبناء المستقبل الواعد.
التحدي والاستجابة نظرية في التاريخ يعد المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي من أوائل المنظرين لها. خلاصة هذه النظرية أن الأمم حين تتعرض للمخاطر الكبرى ويكون توازن القوة في غير صالحها، تعود لمخزونها وإرثها الحضاري في محاولة لاستنهاض قدرتها على مواجهة التحدي. ويعتبر توينبي استنهاض الموروث نوعاً من الاستجابة للتحديات التي تواجه الأمم.
وإذا ما حاولنا الأخذ بهذه النظرية، وعملنا على تطبيقها على واقعنا العربي نجد أن حركة اليقظة العربية في مراحلها الأولى، في مواجهة الهيمنة العثمانية، ولاحقاً في مواجهة الاستعمار التقليدي، مارست ذلك في «استجابتها» لتحدي الاحتلال، وركزت كثيراً على بعث الموروث العربي؛ بل إننا نزعم أن طرح فكرة الوحدة العربية جاء بصياغة رومانسية من حيث أنها استعادة لماض سلف.
فمعظم الأدبيات القومية التي صدرت في مطلع عصر التنوير العربي، ركزت على بعث التراث العربي في الجوانب التي تخدم أهداف وتطلعات العرب. وفي هذا السياق تأسست أحزاب سياسية حملت مسميات وعناوين وشعارات تشير إلى أن ما تمارسه، هو استمرار للنهضة العربية وللدور المجيد للعرب، منذ بزوغ الرسالة الإسلامية، وقيام الدولة العربية الكبرى التي امتدت شرقاً إلى بوابات الصين، وغرباً إلى الأندلس.
لقد وسمت كثير من دراسات المستشرقين مشاريع عصر التنوير بأنها رومانسية تهدف إلى استعادة ماضي السلف؛ لذلك بدا الفكر القومي وكأنه فكر غير تاريخي؛ كونه يوقف الزمن ولا يُدرك مدى المتغيرات التي طرأت على الواقع العربي، وذلك أمر صحيح إذا ما أخذ الأمر على علاته، لكنه يغدو صحيحاً إذا ما وضع الطرح في سياق نظرية توينبي في التحدي والاستجابة.
لقد مر العرب بقرون عديدة من التخلف والعزلة منذ احتل المغول بغداد عاصمة العباسيين، وبسبب من ذلك تعثر دور العرب الحضاري، وجاء الاستعمار الغربي لاحقاً، ووعد بلفور، بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، ليكرس استمرار حالة النكوص.
برز في يقين قادة النهضة أن ما تحتاجه الأمة للخروج من النفق، هو مواصلة الدور الحضاري الذي لعبته الأمة في عصرها الذهبي، وذلك يعود في جانب منه إلى أن موازين قوة العرب آنذاك لم تكن تمكنهم من مواجهة التحدي من غير استحضار تاريخهم المجيد، ومنجزاتهم حين شعت حضارتهم ربوع المعمورة. ومن هنا طرح عصر التنوير استعادة ذلك الماضي في مسميات عدة، لخصت في اليقظة والإحياء والبعث، وجميعها عناوين حملت معنى الاستجابة للتحديات الماثلة آنذاك.
الأمر إلى هذا الحد يبدو منطقياً ومقبولاً، لكنه لا يلبي حاجة الأمة للخروج من النفق الذي وجد العرب أنفسهم مطوقين به. فطرح استعادة ماضي السلف حتى وإن كان مقبولاً في مرحلة ما، لكنه غير تاريخي ولا يفتح أبواب المستقبل لمشروع عربي يتسق مع تطورات العصر، ومع التحولات الكونية التي نعيشها.
فعلى سبيل المثال، الدولة التي يتطلع العرب إلى قيامها، ينبغي أن تكون عصرية بكل المقاييس من حيث تبنّيها لقيم الحداثة وللمبادئ الإنسانية التي اتخذت أبعاداً عالمية منذ بداية القرن العشرين. وفكرة الأمة/الدولة هي فكرة معاصرة، استندت على العلاقات التعاقدية ووجود مؤسسات تنفيذية وتشريعية ودستورية، وهي مبادئ عصرية بكل المقاييس، وهي من جانب آخر نتاج عصر الأنوار الأوروبي ولم تكن سائدة قبله.
كان بالإمكان وهو ما ينبغي أن يكون الآن أن يستلهم العرب من ماضيهم قوة تدفعهم لولوج عصر عربي جديد، وفقاً لسياقات العصر وللمبادئ الإنسانية التي بات الإيمان بها مشتركاً، من قبل البشرية جمعاء كالحرية والعدالة والمساواة والحق في تكافؤ الفرص والاعتراف بحق الأمم في تقرير المصير.
الوحدة العربية في السياق الحاضر على هذا الأساس ينبغي ألا تكون استعادة لماضي السلف؛ بل هي تماهٍ مع واقع تاريخي يتجاوز التشكيلات البطركية القديمة، بهدف أن يكون دور الأمة فاعلاً ومستجيباً لتطلعات العصر. إنها وفق هذا المضمون، ينبغي أن تطرح في صيغة الضرورة الحضارية لكي يجد العرب لهم مكاناً في عالم طابعه الكتل الكبرى من الشعوب، عالم لا يحترم إلا الأقوياء.
لقد شهد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولا يزال تشكيل تحالفات عسكرية واقتصادية وسياسية كبرى، وبقي العرب على الهامش تجمعهم مؤسسة كسيحة هي جامعة الدول العربية كرست التجزئة، وحافظت على الهياكل القديمة الهشة، وعجزت عن تلبية مطالب العرب في إيجاد الحد الأدنى من التنسيق فيما بينهم. وقد حان الوقت لإعادة النظر في دور تلك المؤسسة. قانون التحدي والاستجابة بالنسبة للعرب ينبغي أن ينتقل بمفهوم الوحدة العربية من استعادة الماضي التليد، إلى قانون الضرورة وبناء المستقبل الواعد.