إني جاعل في الأرض خليفة
تحدثنا في مقالة سابقة تحت عنوان «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى» عن مسيرة الأفراد والمجتمعات والشركات الى الكمال «كفاءة ومثابرة واستقامة ولذة الفريق». وعرّفنا الكفاءة بالعلم والثقافة والخبرة والهواية والمهارات كالخطابة والكتابة. وتحدثنا عن العلم في مقالة «وقل ربي زدني علما» وسينصب حديثنا هنا عن الثقافة.
يبحث الأنسان باستمرار عن إجابات شافية يطمئن اليها على التساؤلات التالية:
كيف وجد هذا العالم؟
كيف جئت الى هذا العالم، وماهي مسؤوليتي؟
أنا حر ومختار وأحب التكامل، فماهو الطريق الأفضل؟
أنا أحتاج لأخي الأنسان، فكيف أنظم علاقتي بالآخرين؟
ماهو مستقبلي؟ ماذا بعد الموت؟
ولسنا في صدد بحث التطور التاريخي للإجابة على هذه الأسئلة، فما يهمنا هو الأجوبة المحتملة المطروحة حاليا. ويمكن اختصارها بما يلي:
يرى هذا الفريق بأن المادة موجود أزلي فهي لاتفنى ولاتستحدث من العدم فلا حاجة للخالق. ويفسر هذا الفريق وجود الكون والحياة على الأرض كما يلي:
يتبنى بعض العلماء نظرية الإنفجار العظيم قبل حوالي اربعة عشر بليون سنة، حيث كان الكون مادة ذات كثافة لامتناهية في الكبر في مكان أشبه مايكون بنقطة لامتناهية في الصغر «. «Singularity وفجأة حدث الإنفجار العظيم فأنبعثت السحب والغازات من هذه النقطة الصغيرة لتتسع وتكبر ولتكون المجرات والنجوم والكواكب. فهناك مايعادل مائة الف بليون تريلوين نجمة في الكون «أي ثلاثة وعشرون صفر في جنب العدد واحد»، في مجرات عظيمة الترتيب والنظام تحكمها قوانين الجاذبية بين الأجسام وقوانين الطرد المركزي نتيجة الدوران. أما الأرض فتكونت قبل حوالي 4,5 بليون سنة. وكل مانراه في التلسكوبات الفضائية هو 5% من الكون «أما البقية فتوجد مادة مظلمة لاترى تعادل 27%، وطاقة مظلمة لاترى تعادل 68%»، ومانراه أي 5% فالمادة فيها التي تتكون من الأجسام الصغيرة جدا تساوي 1% من وزنها فقط، بينما تعادل القوة النووية الرابطة حوالي 99% من وزنها».
الأسئلة كثيرة ولاتوجد أجوبة شافية من هذا الفريق، نتيجة تبني فكرة عدم وجود الخالق، منها:
ماذا قبل الإنفجار العظيم؟، من أوجد المادة قبله؟ كيف تجمعت المادة في هذه النقطة الصغيرة جدا؟ كيف تحول الإنفجار من الفوضى العارمة الى النظام الصارم في الكون؟ الكون يتجه للبرودة والنجوم تنطفيء تدريجيا والقانون الثاني للديناميكا الحرارية يثبت ان العالم يسير الى اللانظام فهناك علميا نهاية للعالم.
نتيجة مرور بلايين السنين، توجد امكانية لتفاعل المواد الغير عضوية لتكون الأحماض الأمينية التي تدخل في تركيب الخلية الحياتية البسيطة الأولى «خلية بدون نواة وبها حمض نووي بشريط واحد». لاتفسر النظرية كيف وجدت الحياة في الخلية البسيطة الأولى الى الآن بل تتركها لمستقبل الايام على أمل أن يكتشف العلم ذلك. أما تنوع الحياة فتعلله بعملية الأنتخاب الطبيعي. حيث ترى أن الخلية البسيطة الأولى التي وجدت قبل 3,5 بليون سنة قاومت الظروف الطبيعية وأستطاعت ان تستمر في الحياة وأن تتطور تدريجيا الى الخلية الحياتية المعقدة والتي وجدت قبل 1,5 بليون سنة «خلية فيها نواة وحمض نووي بشريطين»، وبدأت الحياة في التنوع والتعقيد تدريجيا في ظل الصراع والإنتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى. حيث ترى هذه النظرية أن حب البقاء أمر طبيعي في الخلايا وفي الجينات وبذلك تموت وتتلاشى أنواع من الحياة وتتطور أنواع آخرى حتى وصلت الحياة الى مرحلة وجود الأنسان الذي يتكون من «10 الى40 تريليون خلية». وقد أختلف في بداية وجود السلالة البشرية «من ملايين السنين الى مئات الآلاف من السنين».
وهنا بعض الأسئلة التي لايجيب عليها هذا الفريق. كيف وجدت الحياة الأولى؟ ثم لو حسبنا بقانون الأحتمالات نسبة وجود الظروف الملائمة للحياة على كوكب الأرض «وجود الماء، الغلاف الجوي، المسافة من الشمس، كروية الأرض، نسبة الأوكسجين، نسبة النيتروجين، النبات والتنفس الضوئي،..... وآلاف العوامل الآخرى» بطريق الصدفة دون تخطيط، لوجدناها تساوي واحد من البليون او أقل، وهذا يعني أن الأحتمال ضعيف جدا بحيث لا يعتنى به. ثم ماذا عن التنظيم العظيم في جينات الأنسان وتركيب الجسم بطريقة لم يستطع الأنسان حتى الآن فك رموزها بالكامل؟ فمثلا يبلغ عدد الجينات عشرين الف جين وتحوي ثلاثة بلايين قاعدة نيتروجينية، ويبلغ طول الكروموسومات مجتمعة حوالي المترين ملفوفة بطريقة هندسية غاية في الدقة لتتناسب ووجودها في نواة الخلية البشرية «لايتعدى قطرالخلية عشرة ميكرون اي 0,01 من الميلليمتر». وهكذا يتبين أنه من شبه المستحيل أن توجد الصدفة هذا التعقيد والتنوع الهائل الذي عجز الأنسان عن فك رموزه كاملا حتى الآن.
يرى هذا الفريق أن المادة لاتخلق نفسها، فلابد من خالق للكون والحياة. وهنا ينقسم هؤلاء المؤمنون بالخالق الى فريقين، هما من يؤمن بأن:
التشريع ووضع القوانين حق إنساني
التشريع ووضع القوانين حق إلهي
يؤمن البعض بأن الكون والحياة تحتاج الى خالق، ولكن بعد الإيجاد والخلق، لاداعي أن يواصل هذه الخالق التدخل في حياة البشر، فقد أعطاهم العقل والقدرة على التفكير والأختيار وترك لهم مهمة تنظيم حياتهم. وقد برزت هذه الفكرة كردة فعل عنيفة على رهبانية الكنيسة وتعسفها ضد التنويريين والعلماء الغربيين. فانطلق المفكرون الغربيون في بريطانيا وفرنسا وبعدها في امريكا لتقنين الحياة بعيدا عن الدين. أما العلاقة بالخالق فتكون روحية يتأمل فيها الأنسان ليشبع حاجته وظمأه الروحي. فيكفيه أن يتعبد يوميا او اسبوعيا او شهريا دون أن يتدخل الخالق في حياته اليومية.
ويعتقد هذا الفريق بأن القوانين الوضعية والدساتير البشرية قد أثبتت نجاحها فقد طوّرت الحضارة الغربية وأوجدت أنظمة كحقوق الأنسان. ولاشك أن القانون الوضعي حقق قفزات رهيبة في بسط النظام وتحقيق الرفاهية المادية في الغرب. ولكن هذا التطور لم يحقق السعادة الأنسانية بل أوجد التناقض الطبقي الرهيب في البلاد الغنية، فمثلا يملك أغنى 10% في امريكا 72% من الثروة بينما لايملك 50% من البقية سوى 2% من الثروة. أما عالميا، فلم يعبر هذا النظام حدود الغرب الى الدول الفقيرة، فالظلم والمجاعة والأمية تغطي ثلث المعمورة، بينما ينشغل الثلث الغني غالبا بالأستهلاك والركض وراء سراب الغنى والثروة والأنانية.
والسبب الحقيقي هو أن القوانين الوضعية لم تتمكن من معالجة تناقض الأنسان مع نفسه الداخلية فتغلبت الشهوة واللذة السريعة وأنهارت عرى الأسرة، وسمح البعض تحت شعار الحرية الفردية بالمثلية الجنسية وحق الإجهاض وتدخين الماروينا. كذلك لم تعالج القوانين الوضعية الصراع في نفس الأنسان بين غريزة حبه لذاته وأنانيتة المقيتة وبين احترام حقوق الآخرين، فأنقلب الأنسان المتحضر وحشا كاسرا يستعمر الآخرين وينهب خيراتهم.
يعتقد هذا الفريق بأن الخالق هو العالم القدير الرحيم الرؤوف فهو الغاية في الكمال. وقد أظهر جماله وكماله في خلقه فترى النظام والدقة والتدبير، ووهب الأنسان العقل والحرية والأختيار وحب الكمال وحمّله الشرف الكبير والمسؤولية العظمى فقال: «إني جاعل في الأرض خليفة». فالأنسان خليفة الله في أرضه، وهو مستخلف يسير حسب النظام الذي وضعه الخالق نحو إعمار الأرض وسعادة البشرية وتطور الحضارة.
وحيث أن الخالق كامل يحب الكمال وعادل وعالم ولطيف فمن البديهي أن يكشف عن الحقيقة من خلال التشريع ليرشد البشر الى طريق الكمال والسعادة. فبعث الرسل بالبينات وأنزل معهم الكتب فبينوا الشريعة وعاشوها في حياتهم. ثم جعل بعدهم الأوصياء الذين أكملوا المسيرة، ووعد بأن يملأ آخرهم الأرض قسطا وعدلا.
والحقيقة أن التشريع السماوي يقدم حلا لتناقض النفس البشرية، فهو:
برشد الأنسان الى الحب الحقيقي لذاته فتضحيته للآخرين وصموده ضد أنانية نفسه هي في الواقع حب حقيقي للذات لأنها تحقق له سعادة الآخرة،
يلبي غرائز الأنسان دون أن يضحي بالمثل والقيم والطموحات العليا، فهو يرسم له برنامجا حياتيا كالزواج مثلا ويربيه على التحكم في الغرائز،
يطلق طاقة الأنسان ويشحذ إرادته ليتعلم ويعمل ويبني ويتكامل في مسيرة جميلة ومحبوبة للنفس لأنها مع الخالق والى الخالق: «يا أيها اللإنسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه»،
لا يتبنى رأي أغلبية ضد أقلية، بل هو في كامل الموضوعية. وكمثال على ذلك نرى الجمال الرائع في آية المواريث في القرآن الكريم قبل الف وأربعمائة سنة، بينما نرى عدم العدالة في نظام الإرث الأوربي الذي أستمر في توريث الأبن الأكبردون غيره حتى عام 1804 في فرنسا، وحتى عام 1919 في المانيا، وحتى عام 1925 في بريطانيا للأراضي الزراعية. «انظر كتاب رأس المال، المؤلف: بيكاتي»
يعتبر الدنيا فصلا قصيرا من حياة الأنسان، فالحياة الأبدية هي في الآخرة. وهذا الإيمان بالحساب العادل في الآخرة يحقق الرضا والسعادة في الدنيا.
الدين اذن ثقافة تتبنى نظرة متكاملة للحياة في الدنيا والآخرة، وترسم علاقة متوازنة للأنسان بالخالق والطبيعة وأخيه الأنسان. وهذه الثقافة تحدد مسؤولية الأنسان العظمى وهي أن يعمر الأرض في ظل التشريع السماوي، إمتثالا لقوله تعالى: «إني جاعل في الأرض خليفة».