لماذا نجح الأنوار وفشل التنوير؟
تطرح المقاربة بحدة، بين عصر الأنوار الأوروبي، وعصر التنوير العربي. وهي للأسف مقاربة ليست في مصلحتنا. ولكنها تبقى مقاربة مهمة إذا ما عقد العرب العزم على الخروج من نفق الأزمة الذي استمروا قابعين فيه سنين طويلة. وقد كانت هذه المقاربة، ولا تزال، موضع اهتمامنا في أحاديث عدة، تناولنا فيها أسباب فشل المشروع النهضوي العربي، من زوايا عدة، ولكن حيوية هذه المقاربة، وأهميتها، تجعلها دائماً محط اهتمام، بما يستدعي المزيد من القراءة والتحليل.
أول ما ينبغي ملاحظته في هذا السياق، هو أن الثورة الصناعية كانت في مواجهة مع نظام إقطاعي، أكدت كل المؤشرات عدم قدرته على التنافس، لا في الفكر، ولا في السياسة، ولا في القوة الاقتصادية مع القوى الصاعدة الجديدة، التي مثلت طليعة الثورة الصناعية.
فمن حيث الفكر، جاءت الثورة الصناعية، حاملة لمبادئ عصر الأنوار التي مثلتها أفكار روسو، ومونتيسكيو، ولوك، وهوبز، وأدب هوجو، وفولتير، وغيرهم، من المفكرين والأدباء العظام الذين كانوا رواد المرحلة الرومانسية، التي مهدت الطريق للثورات الاجتماعية في القارة الأوروبية.
ومن حيث السياسة، اضطلع المفكرون الذين أشرنا إليهم، كل في مجال تخصصه، بصياغة برنامج المستقبل، ورسم بوصلة الطريق، لما بعد سقوط الأنظمة البطركية. فكتب روسو عن العقد الاجتماعي، الذي رسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وباتت بموجب هذا العقد، مهمة الحاكم السهر على تنفيذ مطالب شعبه. وحدد لوك، صيغة العلاقة بين البناءين الفوقي، والتحتي، من خلال مؤسسات تنفيذية وتشريعية ودستورية. وتناول مونتيسكيو موضوع القانون، وأهمية أن تكون دولة المستقبل، دولة العدل والقانون.
وهنا تجدر الملاحظة، أن مشروع الأنوار لم يكن يجري في فراغ، بل وجد فرصته التاريخية، من خلال التطورات التي حدثت في مجال التصنيع، وأيضاً من خلال الثورتين، الفرنسية والانجليزية، حين اضطلعتا بوضع أفكار عصر الأنوار في أوروبا، قيد التنفيذ.
ولم تكن صدفة، أن تنطلق الثورتان، الفرنسية والانجليزية، في زمن متقارب. ففي انجلترا كانت البداية. وكان القطن هو نقطة التحول في التاريخ الإنساني من العمل الحرفي، إلى عصر الآلة. وكانت التداعيات تفرض نفسها، وتحقق انتقال الإنسان، وقدرته على تطويع الطبيعة، من حال إلى حال. فصناعة النسيج تستدعي توافر المتطلبات اللوجستية، للتصدير. وتفتقت عبقرية الإنسان الانجليزي، عن ابتكار القطارات، لتسهم في حل معضلة نقل المنتجات القطنية، وتصديرها للخارج. وكان هذا التطور يعكس ذاته في تحولات اجتماعية ضخمة، بعضها مرئي، والآخر كامن.
وضمن ما كان مرئياً، هو النزوح الضخم من الأرياف، إلى البلدات الصناعية، للعمل في المصانع. وضمنه أيضاً، التضخم الهائل في رؤوس الأموال، وخلق طبقة فتية، ونهمة، مستعدة ليس لإغراق الأسواق المحلية بمنتوجاتها فقط، بل وللتسابق على الأسواق العالمية، وإن لم يتحقق ذلك بالسلم، فليكن بالهيمنة، والقسر، والاستعمار. وكانت طبيعة الأشياء تقتضي التوسع الصناعي في مختلف المجالات، فالنسيج قاد إلى صناعة السكك الحديدية، والسكك قادت إلى تطوير آليات استخراج الفحم الحجري، كما قادت إلى تطوير السفن، وتحويلها من سفن شراعية، إلى حال يجعلها أكثر قدرة على قطع المسافات بسرعة، وكميات مضاعفة. وهكذا.
ولم تكن فرنسا بعيدة عما يجري قريباً منها. وكان دورها الأيديولوجي مكملاً لما اضطلعت به الصناعة الانجليزية. وحين هبت الثورة الفرنسية، عام 1789م، وصدر دستورها فيما بعد، اتضحت معالم الطريق لشعوب أوروبا، وانتقل التأثير سريعاً كالهشيم، إلى أمريكا الشمالية. وحين صدر الدستور الأمريكي، جاءت مواده متأثرة بشكل كبير، بمبادئ الثورة الفرنسية. وقد بلغت أصداء هذه الثورة ومبادئها زوايا الكرة الأرضية، ومن ضمنها الوطن العربي، حيث حملت مبادئ عصر التنوير وميض مبادئها.
وفي الوطن العربي، وقفت معظم الأحداث لتلجم مرحلة التنوير العربي. فهذه المرحلة لم تكن نتاج تطور تاريخي في البلدان التي انطلقت منها، بل كانت كما أشرنا، نقلاً لمبادئ وأفكار عصر الأنوار الأوروبي. وقد تأثر معظم قادة مشروع النهضة العربي، بأفكار الثورة الفرنسية، ولاحقاً بالأفكار اليسارية، لكن النقل جاء في صيغة نسخ خال من الإبداع، والتوطين، ولم يتمكن قادة عصر النهضة، أن يجدوا ضمن القوى الاجتماعية الكبرى، حاملاً لمشروعهم، بخلاف ما حدث في فرنسا، وانجلترا، ولاحقاً بقية الدول الأوروبية، حين بات أرباب الصناعة، والطبقة المتوسطة، هم حملة مشاعل مشروع الأنوار، ووضع برامجه قيد التنفيذ.
وبخلاف المواجهة الأوروبية، بين الإقطاع المتداعي، والقوى الفتية الصاعدة، كان على مشروع النهضة العربي أن يتنافس مع الاستعمار الأوروبي، في قمة جبروته، وفتوته. وفي الوقت نفسه، فإن حمل قادة المشروع النهضوي للأفكار الليبرالية، ولقيم الحرية والعدالة، وللأفكار التي عبر عنها عصر الأنوار الأوروبي، قد جعلهم، بغياب التوطين لتلك الأفكار، تابعين للغرب. وحين جرى تقسيم الوطن العربي وفقاً لاتفاقية سايكس - بيكو، وأفصح البريطانيون عن وعد بلفور، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، أودي بالمشروع النهضوي، بعد أن وجه له الغرب طعنة مباشرة في الصميم، مكنت الإسلام السياسي من أن يستغل ما جرى، فتوضع أصابع الاتهام، بحق زعماء النهضة، وليصل الاتهام، في صورة كاريكاتيرية، إلى مبادئ التنوير ذاتها.
بمعنى آخر، فشل مشروع التنوير العربي، لأسباب عدة، أهمها أنه لم يجر توطينه، ولم يكن هناك حامل اجتماعي قادر على وضعه قيد التنفيذ، وقد تكالبت كل الظروف ضد توفير فرصة لتحقيق عناصره، بما في ذلك الغزو الخارجي، والبروز القوي للإسلام السياسي، في نهاية العشرينات، من القرن الماضي.