الحُب بين عالمين
توافدت سيارات إخوتي ممتلئة بنا، نتتابع إلى مرقده الترابي، مازال الظلام مُسدلًا أستاره، صلينا الفجر واحدًا تلو الآخر واجتمعنا حول منامه، واحد يقرأ سورة البقرة، وآخر الحشر، وقد اخترت «يس» ثم «الواقعة».
بدأ الصبح ينكشف، وصار الأحباء الأوفياء يتوافدون من باب الدخول، وكلٌ يتجه إلى مرقد فقيده، مشهد تحت الشروق، مُثير للتأمل، وعليك الصمت.
لم يخطر بذهني مسبقًا أن أجرب شيئًا كهذا، أهو الخوف من رائحة الراقدين إلى الأبد؟ أم هو ضيق الأفق والانحسار بحدود المادة والملموسات المنتهية لا محالة؟ كان لابد من تجربة علاقة جديدة، ولا شيء أغرب من علاقة بين عالَمَين، ليسوا أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون، إنما المعيار والمعنى اختلف وصار غيبيًا، نعجز عن إدراك كله، ماذا تفعل هذه الأجساد الخامدة تحت التراب؟ هل تسمعنا؟.
البشريون الذين جاؤوا يصافحون تراب الأموات، جاؤوا موقنين بهذه العلاقة، فهل هم على صواب أم أنهم واهمون وتحت هول الصدمة؟ بطبيعة الظرف المكاني والنفسي لن أتمكن من سؤال أحدٍ هنا عن دافعيته للزيارة والجلوس حول تراب مسور بحجارة متوسطة الحجم، النظر هو وسيلتي الوحيدة للفهم.
ولثلاث فجريات متتالية، ألمحُ رجلًا ستينيًا يجلس صامتًا عند مرقدٍ يحمل اسم سيدة، وجه مُصفر لكنه راضٍ، عينان تغوصان بالنظر إلى نواحي المقبرة، يتمتم بكلمات وآيات مقدسة، يتفقد شيئًا بين الأغصان الخضراء التي غرسها بجوار فقيدته، سطعت الشمس، ائتزر وبدأ يسقي الأوراق كأنه يسقي حديقة منزله! ثم يرزح في كرسيه الأبيض يتأمل العالم حوله، لله در الوفاء! أطلت النظر إليه، وكزني أخي: هيا.. لقد استدارت الشمس وعلينا الذهاب، ولكن مَن هذا؟ إنه جاري قبل خمسة أعوام، رجل لم يُرزق بأبناء، وهذه زوجته التي رافقته طريق الحياة، له السلوان يا ربي.
تجربة من نوع فريد، رقيقة قاسية، شفيفة صارمة، مُريحة موحشة، مظلمة مُضيئة، كنت أخشاها لكن عداد الزمن لوالدي قد توقف فجأة، ولم يتبقَ إلا لحظات، ليخرج جسده من نِطاق الأحياء، كان لابد من دفع جسدي ليجري نحو باب المقبرة دون خوف هذه المرة، واكتشفت عالمًا آخر من الوفاء.