عواصف التغيير واحتمالات المستقبل
بات العجز عن تقديم أجوبة عملية عن مستقبل هذه الأمة، أمراً مسلّماً به من قبل أغلبية الشعب العربي. وكان السؤال، ولا يزال، يتركز في أسباب هذا العجز. أجوبة ساكنة، هي وجه آخر للعجز، حمّل بعضها المستعمر تبعات ما نحن عليه الآن من تخلف، وضعف، وعدم قدرة على أخذ المكان اللائق بنا على ظهر هذا الكوكب. وحمل بعضها الآخر، جواباً جعل من سيادة بعض أنظمة الاستبداد، وغياب الحرية، واحترام الرأي والرأي الآخر، أسباباً لما نحن عليه الآن.
وقد مارس حملة هذه الأجوبة إرهاباً، وتحريضاً، واتهاماً، يضاف إلى جملة التابوات التي تعانيها بعض المجتمعات العربية.
وتسود الواقع العربي حالة احتقان عميقة، سادت عقوداً طويلة. وهناك عجز شامل عن الخروج من شرنقة الماضي، والولوج في العصر الكوني الذي نعيشه، العصر الذي يتحرك من حولنا بسرعة تفوق سرعة الضوء. وحراكنا حتى الآن، رغم صخبه، حراك بطيء تصاحبه مخاطر أي حراك عفوي شهدته البشرية على مر التاريخ، عرضة للتقدم، كما هو عرضة للانكفاء.
وقد جاء «الربيع العربي» ليجعل احتمال تفتيت الدولة الوطنية العربية، أقرب منه إلى تحقيق أهداف الحرية والكرامة، التي هتفت بها حناجر الملايين في ميادين المدن العربية، في مصر واليمن وسوريا وليبيا وتونس والسودان والجزائر.
وخلال هذا العقد، واجهت هذه البلدان عواصف التغيير المطالبة بالإصلاح، يقودها جيل واجه الحرمان والكبت، وقرر كسر قيوده. وأمام هذه المتغيرات، انتصرت فكرة الحق في الاختلاف الذي هو في الأصل، من نواميس الطبيعة، وسنن الكون. فنحن في النهاية بشر لنا أهواؤنا ورغباتنا المختلفة، ولسنا نماذج مستنسخة، أو صدى لبعضنا بعضاً.
إن الإقرار بذلك، يعني التسليم بأن لكل فرد الحق في أن تأخذ قناعاته ومصالحه حيزاً مناسباً في المجتمع الذي يعيش فيه ضمن الرؤى والمواقف والمصالح الأخرى، على ألا تكون تلك القناعات وحدة الوطن. إن غياب التسليم بالاختلاف من شأنه أن يؤدي إلى الصدام في المجتمع الواحد. ولن ينتفي ذلك إلا بوضع ضوابط ومصدات تحول دون وقوعه، أساسها الاعتراف بالحقوق والتكافؤ.
كيف يتحقق ذلك؟ سؤال تاريخي، ظل هاجس الفلاسفة والمفكرين، منذ أرسطو طاليس في اليونان، في كتابه «السياسة» وقوانين حمورابي، وتواصل لقرون طويلة. ولعل كثيراً من الأساطير والملاحم في الحضارة اليونانية، وحضارات ما بين النهرين، حاولت أن تجيب عن السؤال، وربما تمكنت من الإجابة عنه في حينه، وربما أيضاً كانت إجابتها صحيحة آنذاك، ولكن رحلة البحث المضنية عن جواب نهائي تظل مستمرة، لأنها في ذلك أسيرة حراك تاريخي متواصل يشير إلى عدمية البحث عن الجواب، وسوف تبقى الرحلة مستمرة في دورات متعاقبة، لا تنقطع، طالما استمر بقاء النوع الإنساني.
وفي التراث السياسي الكلاسيكي الحديث، لخّص ماكس فيبير في كتابه «الأخلاق البروتستانتية» تلك المراحل، مبتدئاً بمرحلة القبيلة، حيث يعتمد النظام السياسي على شبكة معقدة من التقاليد. وفي التراث الإسلامي شيء قريب من ذلك. وكانت نهاية المطاف في التراث السياسي الغربي هي العقلانية القانونية. وتعتمد على التخصص في مختلف المجالات، وتوسع الأجهزة البيروقراطية، وتقسيم الوظائف، وسيادة نظام يقوم على التعددية والمؤسساتية والمجتمع المدني. والتشخيص هذا صحيح إلى حد كبير. وقد اعتبرها فوكوياما نهاية التاريخ.
والخلاصة أن أي نظام سياسي، أو اجتماعي إذا ما تم وضعه في إطاره التاريخي يبدو منطقياً، وعملياً، وسليماً. لكن ذلك لا يعني أن الأنظمة التي سادت في التاريخ، حظيت بإجماع وتأييد مطلق من قبل شعوبها. ولذلك، يسجل التاريخ في أسفاره قصص الكثير من الحروب المحلية، وثورات الغضب، والجوع، وحالات التمرد.
لا بأس، إذاً، من التسليم، ونحن نرصد ما يجري الآن في الجزائر والسودان، من حراك سياسي واسع، بأن وجود معارضات سياسية في البلدان العربية هو قانون طبيعي، من المستحيل تجنبه، وأن ذلك وضع صحي، وإيجابي، إذا ما تم التعامل معه، من قبل مختلف الأطراف، بطرق حضارية ومشروعة، تستلهم من ثوابت الأمة، والقيم الوطنية والأخلاقية دليلاً، وموجهاً لحركتها.
فليس من المنطقي أن تستعدي المعارضة الوطنية القوى الأجنبية، وتشجعها على التدخل في شؤون أوطانها، أياً تكن اليافطات المرفوعة، أو أن تأتي إلى الحكم على ظهور دبابات تلك القوى. ولا أن تعتبر التفتيت والمحاصصة الطائفية، وسيلة لتحقيق غاياتها. لا بد من تنظيم للعلاقة بين مختلف الأطراف، وأن يتم حسم الخلافات، وتحقيق الانتقال السياسي بلغة الحوار، والاعتراف بحقوق الجميع، بتكافؤ، وندية، ومساواة.
وفي ظل الخلافات المستعرة بين مختلف مكونات النسج الاجتماعي، فإن من المنطقي أن ينبني التفاهم والتوافق بما يضمن سلامة هذه الأوطان، ويؤمّن استقرارها، ورخاءها.