آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:20 ص

الجمال بين ثقافتين

سهرت البارحة حتى وقت متأخر من الليل وأنا أتخيل حوارا بين الثقافة الأسلامية والثقافة الغربية حول مفهوم الجمال. طلبت من المتحاورتين تعريفا للجمال نتفق عليه كبداية للحوار بعد أن تعهدت لهما بالحياد التام، فأتفقتا أن الجمال هو الحسن وهو عكس القبح، وهو بلوغ الشيء كمالا يجذب انتباه الآخرين ويحقق لهم الرضا والسرور. وهو قسمان جمال حسي تلتذ به الجوارح كالنظر والسمع والذوق وقد يختلف الناس فيه فما هو جميل لدى زيد قد لايكون جميلا لدى عمرو، وجمال معنوي تلتذ به الروح كالمعنى والفكر والإنجاز والأخلاق ويتفق على جماله كل البشر لكن بنسب مختلفة. أتفقت معهما أن نطلق على الثقافة الأسلامية الرمز «أ» وعلى الثقافة الغربية الرمز «ب» ليسهل تدوين الحوار.

بدأت «أ» فقالت: الجمال سحر يتجلى في الخلق بصورعديدة وبنسب مختلفة، فكل مخلوق أحسن الله خلقه وجعله في أبدع صورة يمكن أن يكون فيها. وغاية الجمال هي جمال الخالق فهو كمال العلم والقدرة والرحمة والرأفة وكل صفات الكمال، فقد ورد: «اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله وكل جمالك جميل، اللهم إني أسألك بجمالك كله»، أما الخلق فكل يغرف من جمال الخالق بقدر سعته وطاقته، وكلما ترقى الأنسان في عالم الكمال كلما أقترب من جمال الخالق اللامتناهي.

نعم قد يتبادر الى الذهن جمال الشكل والمظهر وهذا واضح لاشك فيه، غير أن هناك الكثير من أشكال الجمال فمثلا:

جمال البيان في قوله تعالى: «الرحمن علم القرآن خلق الأنسان علمه البيان»، جمال المبنى أشترك مع جمال المعنى فهزّ المشاعر وأطرب النفوس،

جمال الأخلاق في قوله تعالى: «و يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إانما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء ولاشكورا»، فتلك قمة العطاء والأيثار

جمال القصة: «نحن نقص عليك أحسن القصص»، كقصة يوسف وموسى وغيرهما،

جمال الذكرى: الملاحم التاريخية التي مضى عليها حوالي الف وأربعمائة عام ومع ذلك فهي تتجدد عاما بعد عام،

قالت «ب»: أضيف الى ماذكرتي أن تاريخ الغرب مليء بأشكال الفن الجمالي كالنحت والرواية والرسم. وقديما عرف الأنسان النسبة الذهبية في الرياضيات والتي تتحقق عندما يكون «مجموع عددين مقسوم على أكبرهما يساوي النسبة بين أكبر العددين إلى أصغرهما». وهو عبارة عن ثابت رياضي تبلغ قيمته 1,618 تقريبا. وهذه النسبة تضفي جمالا خاصا على المستطيلات المختلفة، فمثلا اذا كان طول المستطيل يساوي عرضه مضروبا في 1,618 سيكون شكله أجمل من مستطيل طوله مثلا يساوي عشرة أضعاف عرضه، وتجد هذه النسبة تطبيقاتها في أشكال المخلوقات كالأنسان والنباتات.

قالت «أ»: الجمال الحسي يحتاج الى الجمال المعنوي:

الجمال الحسي حقيقة يعبر عنها القرآن، فمثلا قال عن النسوة اللواتي رأين يوسف : «فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن وقلن حاش لله ماهذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم»،

وكذلك الجمال المعنوي، فقد قال القرآن عن رد يوسف على إغراء الجمال: «رب السجن أحب إلي مما يدعونني اليه»،

وكذلك ورد الجمال الحسي في سورة الرحمن عن جزاء المؤمنين في نعيم الجنة: «فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس قبلهم ولاجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، كأنهن الياقوت والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان»، وذكر بعده مباشرة الجمال المعنوي في الآية التي تليها: «هل جزاء الإحسان الا الإحسان»

فالجمال الحسي مارد قوي قد يستثير الغريزة، ولذا ورد في القرآن كحماية ووقاية من هذا المارد قوله تعالى: «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم» وقال تعالى: «و قل للمؤمنات يغضضن من أبصرهن ويحفظن فروجهن ولايبدين زينتهن إلا ماظهر منها»، فالجمال الحسي يحتاج ان يلجمه الجمال المعنوي كالعفة والشرف ليحقق الرضا الحقيقي والسرور الدائم،

قالت «ب»: نحن لا ننكر أن الجمال المعنوي جميل فمثلا نحب القيم كالأخلاص في العمل وخدمة الآخرين ومساعدة المساكين والأنجاز وتحقيق الذات وتاريخ الحضارة الغربية وانجازاتها خير دليل على ذلك. غير أننا نؤمن بحرية الفرد في التصرف فنطلق العنان للفرد أن يمارس حريته في التعبير عن جماله وفي التأثر بجمال الآخرين،

قالت «أ»: الحرية جمال يحتاج الى كمال، وجمالها أن يتحرر الفرد من قيود الشهوة والأغراء وهذا لايتم في أجواء التبرج والأنحلال. لذا لابد أن نضع للحرية إطارا وقانونا يحفظ الأسرة والفرد من اللهث وراء السراب، وهكذا صنع الغرب في منع التحرش فلا مانع اذن من اضافة قوانين آخرى تعالج الخلل الأسري والأجتماعي الذي برز للعيان،

قالت «ب»: دعي نقاش الحرية فذلك يطول ولنناقش كيف نستخدم الجمال لتحقيق المنفعة واللذة؟ ثقافتكم تكثر الحديث عن المعنويات، ونحن نريد في هذه الدنيا أن يحقق الجمال قيمة نفعية ومصلحة مادية سريعة. لقد أستفدنا في الغرب من الجمال واللذة المتوهجة في الدعاية والأستهلاك فمثلا يعرض المشاهير وملكات الجمال الأزياء والموضات ويبرزون مفاتنهم في الأفلام والمسلسلات،

قالت «أ»: قد يحقق هذا النفع المادي ولكن على حساب السعادة والحياة الأجتماعية. فإذا أعطينا العين والجوارح لذة الجمال ونسينا القيم والأخلاق، فستنحرف مسيرة الأنسان الى الجسد والماديات على حساب الروح والمعنويات وهذا لايحقق السعادة المنشودة،

سألت «ب»: ولماذا لاتتحق السعادة؟

أجابت «أ»: سعادة الأنسان لها جانبان حسي ومعنوي ولابد من التوازن بينهما ليرتقي الأنسان في سلم الوجود.

سألت «ب»: كيف يرتقي في سلم الوجود؟

أجابت «أ»: كما يحتاج الأنسان الى لذة البصر فهو يحتاج الى لذة البصيرة لتوصله الى الخالق. إن لذة البصيرة دائمة متواصلة لا تنطفىء أبدا بينما لذة البصر تشتعل وتموت بسرعة. فلذة البصر بالجمال الحسي يموت مع الوصال لذا يبقى الانسان متعطشا لألف جمال وجمال، وقديما قيل: «الوصال مقبرة العشق الحسي». أما لذة البصيرة بالجمال المعنوي فتتوهج مع الوصال وتزداد شوقا وحرارة وقد ورد: «انت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك»، «ماذا وجد من فقدك، ومالذي فقد من وجدك»، «عميت عين لاتراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا»،

قالت «ب»: نحن في الغرب نؤمن كثيرا بالحياة المادية ونرى أن أروع الجمال وأقربه للنفس هو جمال الشكل والمظهر وبه يتم الجذب والتأثير، وسحر الفوتوشوب وجمال الصورة أقوى تأثيرا من الف كتاب وخطاب،

قالت «أ»: جمال الشكل والمظهر قناع قد يخفي قلبا صافيا يحلق في السماء وقد يخفي وحشا كاسرا ينهش في الأحياء،

قالت «ب»: تغير الغرب كثيرا منذ الحرب العالمية الثانية وأصبح التركيز على جمال الشكل ويبدو أن الموجة العاتية بدأت تضرب سواحلكم، فعمليات التجميل من توسيع العيون وتكبير الشفاه و... و.... تستهلك أموالكم وتغري أجيالكم الشابة رغم أضرارها الصحية والمادية،

تنهدت «أ» وقالت بحرارة: نعم، وقد تكون سببا في كثرة الطلاق والفراق، فالجمال الحسي يفقد بريقه بعد الوصال والأهتمام بالشكل دون المعنى يفقد الحياة الأسرية الأستقرار ومقاومة الصعاب،

قالت «ب»: أنتظري الكثير مستقبلا فالهندسة الثقافية تنحت فيكم جيلا بعد جيل،

سألت «أ»: وقالت وماهي أدواتكم وأساليبكم في الهندسة الثقافية؟

قلت لهما بابتسام: لقد طال المقام وبلغنا المرام فلنكمل الحوار عن الهندسة الثقافية وعن مفاهيم آخرى كالرحمة في ليلة آخرى، أما الآن فدعونا نختم الكلام بذكر خير الأنام.

رئيس جمعية مهندسي البترول العالمية 2007
والرئيس التنفيذي لشركة دراغون اويل سابقا.