آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:42 م

في موضوع الهوية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

ناقشنا مع أحاديث سابقة، قضايا الهوية، ولم يكن في النية أن نكتب مجدداً في هذا الموضوع، ما لم يستجد، ما يحرض على ذلك من رؤى فكرية جديدة، تسهم في تطوير المفهوم، ومتابعة عناصره. لكن لقاءاتي بعدد من المثقفين العرب، وبشكل خاص أثناء زيارتي الأخيرة، لأرض الكنانة، وما تم طرحه في تلك اللقاءات من مواقف تجاه الإسلام والعروبة، وقضية فلسطين، دفعت إلى العودة مجدداً لتناول موضوع الهوية، في إطار الرد على بعض الطروحات.

قيل على سبيل المثال، إن مصر جرى تعريبها بقوة السيف، وإن الوقت قد حان لكي يستعيد المصريون هويتهم الفرعونية، وفي السياق ذاته، لا يعود للمصريين شأن بقضية فلسطين، التي فرط بها أهلها.

الأمر هذا للأسف، لا يقتصر على بعض النخب الفكرية في مصر، بل يتعداه إلى عدد من الأقطار العربية. وقع اختيارنا في هذا الحديث على مصر، لكونها في وجدان العرب، والبلد الذي قدم مختلف أشكال الدعم للعرب، في معارك الاستقلال. وأيضاً لأنها طريق المشرق العربي، إلى الشطر الغربي من الأمة. ومصر كما وصفها الشاعر الكبير، حافظ إبراهيم، إن قدر الإله مماتها، لن يرفع الشرق رأسه بعدها.

سنركز على ثلاث نقاط في هذا الحديث، هذه النقاط مجتمعة ذات صلة وثيقة بقضية الهوية. أولى هذه النقاط، هي قضية الفتح العربي، وهو فتح بلغ أبواب الصين شرقاً، وإسبانيا غرباً. ومع سعة الفتوحات العربية، لبلدان العالم، فإن الجزء الأكبر من الأراضي التي فتحها العرب، لم يتعرب، أو أنها استعادت لغتها الأصلية، بعد فترة من الزمن. لكن الأرض الممتدة من الخليج العربي شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، انصهرت في الثقافة العربية، وتعربت سريعاً، وباتت جزءاً لا يتجزأ من النسيج العربي.

لا يوجد في التاريخ العربي، ما يشير إلى أن تعريب مناطق الفتح قد جرى بالقسر. وذلك يسحب أيضاً لاعتناق الإسلام، الذي بات دين غالبية العرب. فرضت دولة الخلافة على غير المسلمين، دفع الجزية. والموقف هذا طبيعي جداً في مرحلته، وما عداه من السجال، هو في عداد السجال غير التاريخي. لأن كل الإمبراطوريات التي سادت في العالم، مارست قانون حق الفتح. لا يستثني من ذلك أحد من أمم الأرض.

والحديث عن وجود بلد، قادر على أن يحقق اكتفاءه الذاتي، ويستغني عن جيرانه وأشقائه، هو الآخر، غير واقعي، وغير علمي. فأي بلد مهما كان اقتصاده متيناً، بحاجة إلى أن يحقق التكامل والتبادل مع بلدان العالم الأخرى. ومصر، كما هي حال عدد آخر، من البلدان العربية، لم تكن مستقلة قبل بزوغ الإسلام، فجاء العرب واستعمروها، بل العكس صحيح. لقد شهدت مصر عبر تاريخها الطويل احتلالاً إغريقياً ورومانياً وبيزنطياً، قبل دخول الإسلام إليها.

ولذلك يعتبر كثير من المؤرخين، الفتح العربي، تحريراً لمصر، من الإمبراطورية البيزنطية، تماماً كما حال بلاد الشام، التي قاتل أهلها مع جيش الفتح، لنيل استقلالهم وحريتهم. وتماماً أيضاً، كما هي حال العراقيين، حين بادروا لمواجهة الاحتلال الساساني، وكانت لهم المبادرة في إشعال معركة القادسية.

هل تجد النخب العربية، الداعية للعزلة، منطقياً دعوة البلدان التي تعربت بالفتح العربي، إلى أن تنسلخ من جلدها فتبتعد عن العروبة والإسلام، وهل ممكن فعلياً تحقيق ذلك؟

الهوية ليست شيئاً ساكناً، بل حالة متحركة، كونها نتاج التاريخ. والدولة القومية التي تأسست في القارة الأوروبية، وضمت أهم بلدان العالم، وأقواها اقتصادياً، هي بمقاييس التاريخ دولة حديثة، لم تتأسس بالقسر، بل كانت مجرد لهجات في اللغة الأم، تطورت لاحقاً، لتصبح لغات حديثة حية، من ضمنها اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، وهكذا...

ثم هل بإمكان كائن ما أن يحدد أصوله العرقية واللغوية، فينسلخ عن جلده، ليعيد هويته، إلى ما قبل آلاف السنين. سجال يبدو عدمياً، وخطيراً. فكيف لبلدان تعتمد في مصادر مياهها ولغتها ودينها، ومصادر قوتها الاقتصادية، كما هي حال الكثير من البلدان العربية، أن تدعو إلى العزلة، والتخلي عن عمقها الاستراتيجي.

فلسطين على هذا الأساس، ليست مجرد أرض مغتصبة، يمكن للعرب أن يفرطوا فيها، بل هي عمق استراتيجي، لمصر وسوريا ولبنان والأردن والجزيرة العربية. والوجود «الإسرائيلي»، هو تهديد ماثل على العرب جميعاً، وليس على الفلسطينيين وحدهم. ولو لم يتوحد هذا الجزء من العالم، في دولة واحدة، في يوم من الأيام، لوجب العمل على تحقيق ذلك، بعيداً عن الحنين لاستعادة ماض مجيد، بل تسليم واع للضرورة التاريخية، في عالم لا يحترم سوى لغة القوة، عالم يتجه نحو تأسيس كتل كبرى، من الشعوب، والتحالفات العسكرية والسياسية والاقتصادية. والضعفاء مآلهم خارج التاريخ.