الحضانة والرعاية: بداية ونهاية!
شاب يسأل بعض مَن في دار رعاية المسنين: لماذا أنت هنا؟
عجوز يجيب: لأن زوجتي ماتت ولأني لا أريد أن أُثقِل على أحد من أبنائي ولا أن أزاحمهم في حياتهم فأقتص منها من أجل خدمتي، فهم أكثر شغفاً بها وحاجة لها.
عجوز تجيب: لأني سمعتُ زوجة ابني تتشاجر معه متأففة من بقائي معهما لمدة أطول مما بقيتُ مع ابني الآخر.
شيخ يجيب: لأني أحضى برعاية تامة هنا حيث العيادة والطبيب والممرضة حاضرون وجاهزون في أي وقت، وكذلك فإن الأكل والشرب والأصدقاء والخصوصية متوافرة أيضاً. فهنا لا أشعر بأن أحداً له عليَّ فضل ولا منَّة، بعد أن دفعت تكاليف هذه الإقامة والخدمة من مالي الخاص. وكذلك، فإن زيارتي وعيادتي متاحة دائماً لأبنائي وبناتي وأصدقائي القليلين. فبإمكانهم زياتي في أي وقت، كما أنه في إمكاني زيارتهم في مكانهم متى شئت.
عجوز آخر يجيب: أنا هنا لأني لا أتحمل إزعاج أبناء وبنات ابنتي الوحيدة التي لم تتردد يوماً في أن تحاول إقناعي بالبقاء عندها بعد أن رحَّب زوجها الطيِّب بهذه الفكرة.
شيخة تجيب: السبب ببساطة أنه لم يبقَ لي من يستطيع القيام بشؤوني، فجميع أبنائي وبناتي وأزواجهم وزوجاتهم في أعمالهم. في السابق، كان للمرأة متسع من الوقت تقوم فيه بالعناية بأمها أو أبيها لأنها تقوم بشؤون البيت فقط وليس لديها أية وظيفة أخرى، وهذا ما قمت به لأبي بعد أن ماتت أمي. أما الآن فقد تغير الوضع كليةً كما تعلم بعد أن خرجت المرأة للعمل خارج البيت لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها. الحقيقة إن الأمر صار إلى النقيض، فقد كنتُ أعتني بثلاثة من أحفادي، قبل أن أطعن في السن وأتقدم كثيراً في العمر، عندما تخرج أمهاتهن للعمل في ذات الوقت الذي أنا محتاجة فيه لمن يساعدني في القيام بشؤوني.؟
طاعن في السن: قبل أن آتي إلى هنا، كنتُ أعيش في بيت ابنتي، وكان لديها خادمة تقوم بشؤون بيتها الصغير وبشؤوني أيضاً، وكانت تلك الخادمة طيبة القلب، ولكني كنت أشعر بالوحدة في أحيان كثيرة، فليس لديَّ من الأصدقاء من يزورني، لأن بعضهم بعيد والبعض الآخر قد فارق الحياة. وقد حاولت الارتباط بامرأة مرة أخرى، ولكني قُوبلت بالرفض بسبب حالتي الصحية وعمري المتقدم رغم ما لديَّ من مال وفير.
ستسمع مثل هذه الإجابات وغيرها عندما تطرح هذا السؤال أو مثله على من يعيش في دور رعاية المسنين. وبالمثل، فإنك ستتلقى إجابات كثيرة عندما تسأل من يعيش خارج تلك الدور عن أسباب عدم التحاقهم بمثل هذه الدور من مثل عدم توافرها أو بعدها أو بهاضة تكاليفها أو عدم قبولها اجتماعياً وما إلى ذلك.
الحقيقة إن الطفل والعجوز يتشابهان في أن كلاً منهما، على حد تعبير المعريّ عن الكفيف، ”مستطيعٌ بغيره“. فهما لا يستطيعان القيام ببعض شؤونهما كالقيام والجلوس والأكل والشرب والاستحمام وغيرها إلا بمعونة أحد. ولكن، المفارقة هنا هي أن دُور الحضانة متوافرة بحيث لا تُقارن بدور رعاية المسنين إطلاقاً، هذا مع احتمال توفر هذه الأخيرة أصلاً. فالعوائل والأُسر لا تتوانى في أن ترسل صغارها إلى الحضانة ولا تتردد بأن تدفع تكاليفها، حتى مع وجود الخادمة أحياناً، بحجة أن الطفل سيتعلم الكثير في الحضانة وأن ذلك بات حاجة ضرورية. وتفسير ذلك عادةً هو أن الطفل قادمٌ ومقبلٌ على هذه الحياة، في حين أن الشيخ أو العجوز مغادرٌ ومدبرٌ عنها. فالدنيا كالمطار: أناسٌ قادمون وأناسٌ مغادرون وطائرات تحلِّق تاركة المطار وأخرى تهبط قاصدةً المطار في الوقت نفسه. فالطفل - بما لديه من الوقت والمال الذي وفره له أبواه - لابد وأن يستعد ويتعلم كيف يعيش هذه الحياة المتوجه أليها، بكفاءة وإتقان لا يُتَحصَّل عليهما إلا بارتياد الحضانة كما تعتقد تلك الأُسر. وفي المقابل، فإن الشيخ الذي هو في صالة المغادرة الآن أو بالقرب منها لا يحتاج إلى أن يتعلم كيف يترك هذه الدنيا أو ليغادرها. وفي حالات أخرى، فإن الأسرة ليست مستعدة بأن تنفق أوتبدد أموالها على رعاية ذلك العجوز الذي لم يبقَ في رصيده ربما إلا القليل من الأيام قبل أن يودِّع هذه الحياة. فهي، الأسرة، تستخسر أن تدفع مالاً - الذي يكون كثيراً عادةً - من أجل راحتها أو راحة وسعادة من سيودعها قريباً.
لن أتحدث عما تختزنه دور رعاية المسنين من مزايا وعيوب، ولكن أتصور أنها ستكون في المستقبل القريب أو البعيد، بما تحمله من مناقب ومثالب، خياراً متاحاً - بل ربما تصبح حاجة وضرورة - مثل دور الحضانة للأطفال، بغثها وسمينها، التي لم تكن موجودة في السابق. وهذا ما نلاحظه في الدول التي سبقتنا في خروج المرأة ومشاركتها الرجل في سوق العمل.
ولعل ما يبطئ خطواتنا للوصول إلى مرحلة ”الحاجة“ و”الضرورة“ هو وحود عوامل لا تزال قائمة وحائلة دون ذلك كبقاء بعض النساء في البيوت والقيام بشؤونه وشؤون الأسرة دون القيام بأية وظيفة أخرى أو توافر دور العبادة المجانية أو شبه المجانية التي يلتقي فيها كبار السن بانتظام أو تعدد المناسبات الاجتماعية التي يلتقي فيها كبار السن عادة أو زهادة أجر الخادمات أو غير ذلك. ولكن كثيراً من هذه العوامل في طريقها إلى الضمور والاختفاء وأن أوان الاستعداد للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية قد حان. لذلك كله؛ فإن التخطيط المسبق للمرحلة القادمة أصبح راجحاً، بل مطلباً. وهذا الاستعداد لابد وأن يكون في شتى الجوانب المالية والنفسية والاجتماعية وغيرها. وما يدريك لعل الطلب على دور رعاية المسنين ونشدانها سيكون عظيماً ومضاهياً لمثيله على دور الحضانة. وبذلك؛ ستدر تلك الدور على أصحابها من رجال الأعمال والمستثمرين الشباب الواعدين ربحاً وفيراً لا تدره دور الحضانة، خاصة إذا ما أدركنا بأن عدد أفراد الأسرة، بما فيهم الأطفال طبعاً، أخذ في التضاؤل وأن عدد كبار السن أخذ في التزايد، كما تشير بعض الاحصائيات.