عروج العاشقين
السعادة غاية كل إنسان في هذه الحياة، والطمأنينة هي العامل الأهم في تحصيل تلك السعادة، والركن الأبرز من أركان الحياة الهانئة الرغيدة، وبينما تفضل الله تعالى على عباده المؤمنين بإخباهم بمصدر تلك الطمأنينة ومعينها الأوحد.
لقد أخبر الله تعالى المؤمنين عن مصدر الطمأنينة الذي لا يمكن لشيء في هذه الدنيا أن يسد مسده مهما علت في نظر الناس قيمته ومكانته، فقال تعالى في كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ الرعد/28
إذا كان ذكر الله مدعاة للطمأنينة فمابالك لو كنت في بيت الله ?! معتمرا أو حاجاًاو كلاهما!
فالحج في الإسلام هو حج المسلمين إلى مدينة مكة في موسم محدد من كل عام، وله شعائر معينة تسمى مناسك الحج، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام …
ما اعظمها من نعمة وانت تضع اقدامك في المسجد الحرام وتقع عيناك على بيت الله وتطوف حول الكعبة المشرفة…
هنيئاً للحجاج هذا التواجد والانقطاع الالهي في ساحة التعبّد والطاعة ومبارك لهم هذا الولاء الخالص لله
فما وصلوا اليه لهو حق يستحقونه عن جدارة
وكيف لا وهو نداء من ربّ الأرباب وخالق العباد فجعلهم الله تعالى من الموفين بعهده والمنقطعين لعبادته. هل سألت نفسك:
لماذا الحج؟
ولماذا نحج؟!!
يتوجب على كل مسلم ان يكون عار مدركاً للاجابة!
من الميقات تبدأ رحلتنا: -
نغتسل طهارة لأنفسنا من الآثام، ونلبس الأكفان البيضاء؛ لِنُؤَاخِي الأموات في لباسهم، ولا عجب؛ فِكِلانَا رَاحلٌ إلى الله، ولسان حالنا دعاء ربنا أن يُبَيِّضَ قُلوبَنا، كما بيَّضَ ثيابنا!
وكلما اقتربنا من مكة؛ تهتز قلوبنا طربًا واشتياقًا لرؤية الكعبة، فما إن نصل الحرم؛ حتى يضج المعتمرون بِالبُكَاء، والكُلُّ يُرَدِّدُ في هيبة ووقار: اللهم زد هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا، ونؤدي واجبات العمرة متمتعين بها للحج بتهيئة نفسية وعقائدية راسخة...
فمعظم أعمال الحج تعبُّدية، ولكن بعضها ظهرت حكمته، وخفي الآخر، ليكون المسلم مستسلماً لأمر الله، منقاداً لربّه ومولاه.
الحج ميلاد جديد، وهو عروج العاشقين لله،،، وأوّل ما ينبغي أن يُفتتح به هذا الميلاد هو توبةُ العبدِ لربِّه، وعزمُه على إصلاحِ شأنِه كلِّه: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].
وإن من الخطأ الكبير أن يظن الإنسان أن مواسم الطاعات فرصة للتخفُّف من الذنوب والسيئات، ثم إذا ذهبت هذه المواسم وقع بعدها في المخالفات، وتنتهي فترة إقباله على الله تعالى بانتهاء تلك المواسم والأيام الفاضلات، والحال أنّه يجب على المسلم أن يجعل مواسم الخير محطّة تحوّل كامل لواقعه وحياته؛ من حياة الغفلة والإعراض عن الله، إلى حياة الاستقامة والإقبال على الله.
بالنسبة للحاج فهي الامتحان الحقيقي لمدى تأثره بالحج، ومدى تأثير أداء هذه الفريضة في نفسه وروحه، والتي من الطبيعي أن يكون أثرها باديا وظاهرا في سلوكه وتصرفاته ومعاملاته.
وإذا لم يتغير سلوك الحاج بعد أداء الفريضة إلى الأفضل والأحسن في جميع المجالات وعلى كافة المستويات التعاملية والعائلية والاجتماعية:
فيقلع عن جميع الأخطاء
فإنه في الحقيقة لم يصل إلى ثمار الحج المرجوة، لأنه ببساطة تعامل مع الفريضة الخامسة بسطحية وسذاجة، ولم يدرك مقاصدها العظيمة، وآثارها الكثيرة المرجوة على الفرد والمجتمع.
فهل ستكون فترة ما بعد أداء فريضة الحج تجسيدا حقيقيا للثمار التي جناها ضيوف الرحمن من هذه الشعيرة العظيمة؟؟؟!
قال تعالى: «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين».
فإن استمر الإنسان في حياته بعد رحلة الحج لربه عز وجل وبهذا الإخلاص في الأعمال تضفي عليه هالة من النور تتوج بها نفسه وتبعثه بحركات تلقائية إلى عمل كل ما يقرّبه من الله تعالى، فلا يعمل هذه الأعمال الباعثة على رضا الله سبحانه بمجرد كونها ترضي الله عنه لا، بل يعملها لتضفي نوع من الحب والقرب نحو القدس الإلهي. باعثه العشق الالهي فتراه دائماً يحث نفسه على البقاء على وضوء بشكل مستمر وكذلك تطهير نفسه الظاهرية والباطنية من جميع أشكال الذنوب والمعاصي والوساوس، التي تشكل الكثير من الحواجز المانعة للوصول نحو قدس الله عز وجل.
لذلك علينا أن نرى الجمال والكمال الإلهي في قلوبنا ونفوسنا ليتجلى لنا هذا القدس، فحالة الحب والخوف والرجاء هذه كلها تُخرج العبد حتماً إلى قرار كبير وهو وجوب إخلاص نفسه وروحه لله سبحانه وتعالى حتى يتجلى له عظمة القدس الإلهي، ويكون بذلك إنسان متجرد بكل كيانه من الملذات الدنيوية وما تحتويها من مكائد إلى نحو العشق اللامتناهي للقدس الإلهي.