تونس ما بعد رحيل السبسي
رحل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، في اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر، يوليو/ تموز 2019، عن عمر ناهز 92 عاماً، تميزت بالحركة والنشاط السياسي لأكثر من سبعين عاماً. شارك في تأسيس الدولة التونسية، بعد الاستقلال، والتزم بالنهج الذي رسمه الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، والذي وازن خلاله بين تبني المشروع الحداثي، وحكم الحزب الواحد.
يوصف الرئيس السبسي بالقائد المخضرم، كونه شهد ثلاثة عهود. الأول هو عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، ثم عهد الرئيس زين العابدين بن علي، وعهد ما بعد الثورة التونسية. وفي جميع هذه العهود لعب أدواراً متقدمة. فقد عهد إليه الرئيس بورقيبة، بمهام في ديوان رئاسة الحكومة، التي تشكلت بعد الاستقلال عام 1956.
وخلال عهد بورقيبة، تولى مسؤولية ثلاث وزارات سيادية هي الداخلية والدفاع والخارجية. وولي رئاسة البرلمان التونسي عام 1990 خلال عهد الرئيس زين العابدين بن علي. وإثر الإطاحة بنظام الرئيس بن علي، جرى تعيين السبسي رئيساً للحكومة، مستهلاً مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس.
في عام 2012 أسس الرئيس السبسي حزب «نداء تونس»، ودخل لاحقاً الانتخابات في مواجهة الإسلاميين، لكنه أجرى حالة توافقية فيما بعد مع حركة النهضة، وضعت حزبه والنهضة، في الواجهة، خاصة بعد أن تمكن حزبه من حصد غالبية المقاعد. وحين جرت الانتخابات الرئاسية الثانية، بعد الثورة، تمكن السبسي من الفوز على منافسه المنتهية ولايته الرئيس المنصف المرزوقي.
واجه توافق حزب النداء مع حركة النهضة مشاكل عدة، انتهت بفض التوافق بينهما، في خريف عام 2018.
في سياق تعزيز الموقع الرئاسي طالب الرئيس الراحل، بتعديل الدستور، وتحويل النظام البرلماني في تونس إلى نظام رئاسي، بما يضيف ثقلاً إضافياً للموقع ويمنح الرئيس سلطات إضافية.
رحل الرئيس السبسي إلى العالم الآخر، في ظل متغيرات واضطرابات سياسية ومحيطة، وأيضاً في ظل انقسامات في حزب النداء، الحزب الذي أسسه الراحل، ومكنه من مواصلة الحياة السياسية بعد انتصار الثورة. وبالمثل هناك مشاكل حادة في حركة النهضة، الغريم السياسي لحزب النداء. وحتى الجبهة الشعبية، التي تشكل القوة الثالثة، في تونس، بعد النداء والنهضة، تمر بظروف صعبة، وتعاني الانقسامات الحادة.
في المحيط، وإلى الشرق، تمر ليبيا بظروف صعبة للغاية. وتشهد ما هو أقرب للحرب الأهلية. ففي الشرق، شيد اللواء خليفة حفتر نظاماً سياسياً، اتخذ من بنغازي مقراً مؤقتاً له، وأعلن أن هدفه هو القضاء على الإرهاب في سائر أرجاء الأراضي الليبية، والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية. وفي طرابلس، يترأس فايز السراج، حكومة وفاق وطني، تناهض اللواء حفتر، وتدعي أنها الحكومة الشرعية، ولكلا الحكومتين مناصرين، عرب وقوى إقليمية ودولية.
وفي الغرب من تونس، تموج الجزائر، منذ عدة شهور، بحركة احتجاجية، تمكنت من منع الرئيس بوتفليقة من إعادة الترشح لرئاسة الجمهورية، وطرحت مبدأ تداول السلطة، ومحاربة الفساد. ولا يزال المرجل يغلي في الجزائر حتى يومنا هذا. ولم تتحدد بعد هوية القوى المرشحة لقيادة العمل السياسي بالجزائر، في المرحلة القادمة.
ويعاني البلدان، من وجود جماعات إرهابية، مسلحة، تهدد أمنهما واستقرارهما ووحدتهما. ومما لا شك فيه أن الأحداث الدائرة الآن في ليبيا والجزائر، ستلقي بظلالها كثيفة، على مستقبل الأوضاع في تونس، ما بعد الرئيس السبسي، خاصة في ظل غياب التوافق السياسي بين القوى الرئيسية الفاعلة، على الساحة التونسية.
هناك أيضاً، هيمنة الأوضاع الاقتصادية السيئة على تونس، وزيادة أعداد العاطلين، واستمرار الفوضى، وانعدام النظام، وبروز الجماعات الإسلامية المتطرفة، وتراجع الأمل في مستقبل زاهر، هو مبرر اندلاع الثورة، وكلمة السر في انطلاقتها. وإذا ما استمرت الأوضاع المزرية على حالها، فإن تونس أمام مستقبل لا تحسد عليه.
لقد تمكن التونسيون، من أن يعبروا بسلام، المحطة الأولى، من ثورتهم. وباتت تجربتهم مضرب مثل، يحتذى به، في واقع عربي مترد وبائس، حيث أصبحت التجربة الديمقراطية الأبرز في وطننا العربي. وعلى هذا الأساس، فإن أي ارتداد في هذه التجربة، سيشكل نكسة في كفاح الشعب العربي، بأسره من أجل الحرية والديمقراطية والبناء.
نأمل من القلب، أن تعبر الشقيقة تونس مخاض ولادة جيدة، وأن لا يفتح رحيل الرئيس الباجي قايد السبسي، الأبواب مجدداً لصراع حاد على السلطة، يكفي تونس ما تعانيه، من ضغط التيارات الوافدة من دول الجوار، ويكفيها أيضاً ما تعانيه من أوضاع اقتصادية مزرية، ينبغي أن يكون التصدي لها على رأس مهام القيادة الرئاسية الجديدة، التي ستنبثق عن الانتخابات التي ستجرى في شهر سبتمبر/ أيلول القادم.
ولا مناص من تحسين أداء النخبة السياسية، والنظر إلى العمل السياسي باعتباره نضالاً وطنياً، وليس مغنماً سياسياً. وليكن رحيل الرئيس السبسي، منطلقاً لتحقيق التوافق بين القوى السياسية الفاعلة، وتشكيل تحالف وطني، جامع بين القوى المدنية، لقطع الطريق على الجماعات التي تشجع على الإرهاب وتضمر الشر لتونس، ولتبقى تجربة تونس الخضراء في العمل الديمقراطي، بوصلة عربية للحرية والانعتاق.