الطفولة في ظل الفضاءات المفتوحة
عالم الانترنت ووسائل التقنية والاتصالات والأجهزة الذكية الحديثة يمكن أن تكون سلاح ذو حدين في ظل هذا الفضاء العالمي المفتوح، خاصةً على المراهقين والأطفال الصغار. فهي إذا كانت وسائل سهلت وصول المعلومة بأقصى سرعة، وساهمت في تبادل المعرفة، وتطوير فكر ومهارات الإنسان، وصقل مواهبه وإمكاناته الفكرية والحسية، إلا أن تركها في أيدي الأطفال والمراهقين من دون حسيب أو رقيب، والإدمان على مشاهدة ما هب ودب من أفلام وبرامج ضمن ما يعرف بدائرة العالم الافتراضي، سيكون له تأثيره السلبي في سلوكهم ونفسياتهم وتفكيرهم وبناء شخصياتهم.
وحسبنا هنا ما يمكن أن تحتوي عليه تلك الأفلام والمقاطع من مشاهد تتضمن سلوكاً عنيفاً، أو صوراً غير أخلاقية ومخلة بالآداب، كما سبقت الإشارة إليه في المقالين السابقين. يضاف إلى ذلك سهولة الوصول إلى مثل هذه الأشياء، وإمكانية تداولها، وسرعة نشرها وانتشارها عبر برامج التواصل الاجتماعي المتنوعة، إذ يمكن أن تصل إلى الأطفال والمراهقين من خلال الأجهزة الذكية الموجودة في أيديهم.
ومن المعروف أن الأجهزة الذكية نافذة مفتوحة على العالم، يطل من خلالها الطفل على برامج ومواد ترفيهية من أقصى الشرق لأقصى الغرب، ومعلومات ومواد تعليمية، وتتيح له الاتصال بملايين المستخدمين المجهولين في العالم، ما قد يجعله عرضة للتحرّش والإيذاء وتكوين أفكار وقيم مغايرة للمجتمع الذي يعيشه، أو حتى للواقع، حيث تَعتَبِر الاستشارية النفسية والاجتماعية ”فوزية أشماخ“ هذا الأمر خطيراً جداً، لأن ”هذه المرجعية المفتوحة للطفل تجعله يكوّن قيماً افتراضية لا صلة لها بالواقع، إذ يستمد معلوماته ونصائحه وأفكاره من أي شخص في العالم له بيئته المغايرة وأخلاقه ومرجعيته الدينية المختلفة“. وتعتقد ”أشماخ“ أيضاً أن تعّرضه لأفلام البُعد الثالث، والبرامج الخيالية، ”تجعله يحمل أفكاراً منفصلة عن الواقع، ويحاول أن يطبقها في واقعه، ذلك أن الطفل غير قادر على التمييز أحياناً بين الوهم والحقيقة، فينجذب إلى العالم الوهمي ويكبر عليه، فيصبح من الصعب أن ينسجم مع الواقع، ولهذا تبعات كثيرة لعل من أخطرها العزلة“. [1]
ومن واقع تجارب سابقة في مجال استخدام التقنية المتطورة وانعكاسها على فكر وسلوك الفرد والمجتمع، تقول ”عهود الشايجي“ عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود، ”إن التقنية الحديثة المتمثلة ببرامج الاتصالات الحديثة، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي والترفيهي، تبدو لدى البعض أنها تنضوي على إيجابيات، إلاّ أن المخاطر والسلبيات تفوق كثيراً ما قد نتوقعه، مضيفةً أنه يجب عدم السماح للأطفال باستخدام مثل هذه التقنيات ذات الفضاءات المفتوحة والمنضوية على مخاطر سلوكية واجتماعية ونفسية وغيرها، مما يُهدد النشء في بداية مراحل نموه، بدءاً من الألعاب الالكترونية في مجموعات على الهواء، وحتى تلك المتعلقة ببرامج التواصل الاجتماعي على مختلف الأجهزة الالكترونية، مبينةً أنه بالإمكان إعطاء الطفل كل ما يرغبه وما نرغبه من برامج إبداعية داعمة، مشيرةً إلى أن الأكثر تأثراً هو النمو الحركي، كون الطفل يجلس ساعات طويلة خلال اللعب ويمتنع عن الحركة، مما يُعرضه إلى أمراض تصلب العظام، ناهيك عن أن زيادة التركيز أثناء ممارسة التواصل أو اللعب يزيد من حدة مشكلة التصلب، كما يصبح الطفل أكثر انعزالاً عن أسرته لطول فترات جلوسه واستخدامه لهذه البرامج والألعاب“. [2]
ولعل الخطير في موضوع الأجهزة الالكترونية، حسب رأي ”فلاح المنصور“، هو هذه الألعاب الإلكترونية الحديثة، ذات الفضاءات المفتوحة، ”والتي لم يعد يلعبها الطفل منفرداً، بل لا بد من أن يكون هناك شريكاً، وهذا الشريك قد يكون من أي منطقة في العالم، والشريك لابد أن يتحاور مع شريكه، وخلال هذا الحوار يتم تمرير مئات المعلومات بل آلاف، والأمر هنا مرعب جداً، وخصوصاً حين نعرف أن أجهزة الاستخبارات العالمية توظف آلاف الخبراء لهذا الموضوع وتوجه مجموعات ضخمة من عناصرها للمشاركة في هذه الحوارات التي تتم مع طفل برئ يلعب لعبته في منزله ويتحدث من خلال سماعة وميكرفون، والأمر لا يحتاج لأمور معقدة، إنها أسهل فريسة على الاطلاق، ونحن بأنفسنا من دفع قيمة هذه اللعبة، ومن هيأ المكان والأدوات لأطفالنا، بين قوسين نحن من قدمنا أطفالنا فرائس سهلة، هذا عدى عن تركنا لهم يتعلمون ألفاظاً وسلوكيات من غرباء لا تربطهم أية صلة بمجتمعنا ولا بمعتقداتنا“. [3]
مجمل القول، كما أن للتقنيات الحديثة آثارها الإيجابية، لها أيضاً آثارها السلبية. إذ من الممكن أن تصل إلى الأطفال والمراهقين عبر تلك الأجهزة الإلكترونية مشاهد مضرة تُبث عبر برنامج اليوتيوب، أو غيره من برامج التواصل الاجتماعي المتعددة، أو عبر الألعاب الإلكترونية التي يقضون معها بالساعات طوال اليوم، فتراهم يملكون أفضل الأجهزة الإلكترونية، وأجهزة الحاسب، والآيباد، والآيفون، وغيرها من أجهزة، ويعيشون في عالمهم الافتراضي متنقلين من موقع إلى آخر من دون ضوابط أو مراقبة، مستسلمين لما يرونه ويسمعونه من مقاطع أو مناظر سلبية، وهو الأمر الذي قد يؤثر سلباً على سلوكياتهم، وبالتالي إمكانية تحوّل هذه المقاطع والمشاهد إلى مقدمات تهدد براءتهم وتربيتهم، وتنمي فيهم السلوكيات المنحرفة.
والسؤال: كيف يمكن حماية الأبناء من هذا التغول التكنلوجي، وتجنيبهم الآثار السلبية التي تتسبب بها التقنيات الحديثة، وما يصاحبها من أمور سلبية يمكن أن تصل إليهم عبر تلك الأجهزة؟ وكيف يمكن الاستفادة القصوى من إيجابيات وحسنات هذه الأجهزة، وتجنُّب سلبياتها ومساوئها؟ وكيف يمكن للوالدين والأسرة غرس الأخلاق الفاضلة في نفوس الأبناء، والتي تُحصِّنهم وتحميهم من الوقوع في مخاطر الإنترنت المختلفة؟