ما قل ودل
جميع من عاشروك، أو كان لهم سبق المعرفة بك، يعلمون أنك قليل الكلام، وأنك لا تتحدث إلا عند اللزوم. هذا يجعل البعض يتساءل في حيرة، لماذا كل هذا الصمت، وهل هو من قبيل التحلي بالحكمة، أو أنه من باب أنك لا تمتلك القدرة على المشاركة، إما لضعف في البنية الحوارية أو المعرفية أو فقر لغوي يحول بينك وبين من يتصدرون منصة الحوار أو الحديث..؟
البعض، للأسف، يغتنم فرصة هذا الصمت، لينهال عليك همزا ولمزا، ليعبر عن النقص الذي تحتويه شخصيته، والعجز الذي بات يسيطر عليه بالكامل، فلم يرى متنفسًا يمكنه من أن يضيف بعدًا أو مرتكزًا لشخصيته المهزوزة، إلا عبر هذا الممر الضيق.
الحديث المقتضب وفي إطار ما قل ودل، أمرٌ محمود، قلّ من يتقيد به هذه الأيام. الإمام علي يقول ”اللسان سيف قاطع لا يؤمن من حده، والكلام سهم نافذ لا يؤمن رده“. فكم من لسان رزين محتشم رفع صاحبه إلى مراتب عليا من التقدير والاحترام، وكم من لسان سليط وقح أودى بصاحبه إلى التهلكة والعياذ بالله.
من الواضح أن بعض الناس قد فقدوا قدرتهم على إدراك أهمية التريث وأخذ نفس عميق، أو العد الى العشرة، قبل أن يوجهوا سهامهم وقذائفهم إلى الآخرين، أو أنهم واقعيًا صاروا يهذون على غير هدى بعد أن أضاعوا بوصلتهم، واكتشفوا إفلاسهم.
لكن توقف للحظة، أليس من حق هؤلاء أن يعبروا عن رأيهم بحرية ودون أن يعترضهم أحد، أو ينقد طريقتهم في التعبير..؟ الإجابة بالمختصر المفيد، لا. الكلمات سلاح ذو حدين، كما تُستخدم الكلمات للتثقيف والتعبير الإيجابي، فإن الكلمات تُستخدم أيضا للتنكيل والسُباب. لذلك، ليس من الإنصاف أن يُترك هؤلاء وغيرهم، للخروج عن المعقول والمتعارف، فقط ليُعطوا الفرصة في أن يخففوا من مخزون الحقد الجاثم على صدورهم، ولو كان على حساب الآخرين.
بالطبع هذا لا يعني أن تتوقف عن الحديث مطلقا، لكن عليك أن تضع بعض الأمور في نصابها. من باب المقاربة، عندما يتعلق الأمر بالمفردات التي تستخدمها في أحاديثك، من الحكمة أن يكون التركيز على الجودة، لكونها أهم بكثير من الكثرة والوفرة. كلما قلّ حديثك، كلما استمع الناس لك أكثر. عبّر عن ما يدور بداخلك، لكن بذكاء، وبكلمات يتم انتقاؤها بعناية وحذر، بعيدًا عن التجريح والإستفزاز، وقابلة لأن يفهمها الناس.
قد يكون الصمت متعبًا لصاحبه، لكنه يبقى الوسيلة الأذكى والأقوى، للرد على عنجهية بعض الأفراد الذين لا يملكون أدنى مبادئ الرقي في أحاديثهم، ولا يأبهون البتة في إضرار غيرهم متى ما سنحت لهم الفرصة، ودون أن يرف لهم جفن. لا تندم أبدًا على صمتك، اندم على ثرثرتك، فخير الكلام ما قل ودل.