المياه ودورها في تأسيس وتفكك الدول
ضمن متابعتنا المستمرة، لأثر الجغرافيا في صناعة التاريخ، يأتي الحديث عن دور مصادر المياه في تأسيس الدول، وتفككها. نجادل في هذا الحديث أن البلدان التي تعتمد في مياهها على الأنهار هي الأكثر وحدة، واستقراراً في نظمها السياسية، وأن الزراعة الفيضية؛ حيث الاعتماد في الري على الأمطار، لا تستدعي قيام نظام دقيق لتوزيع المياه، وبالتالي لا تكون الحاجة ملحة إلى تأسيس كيانات مستقلة في البلدان التي تعتمد على الأمطار كوسيلة للري.
إن البلدان، التي تعتمد على الأنهار وسيلة رئيسية للري، تكون بحاجة إلى إيجاد نظم وقوانين، وسلطة تنظم توزيع الثروة المائية؛ بحيث لا يطغى منطق الغلبة، ويسود احتكار هذه الثروة، وكان من مهام هذه السلطة، تنظيم توزيع الثروة المائية، وشق القنوات الكبرى لتوزيع المياه إلى مناطق أوسع، ومن ثم معالجة التربة وزراعة الحبوب والقمح.
فعلى سبيل المثال، في حالة وادي النيل، أدى تطور الزراعة بوادي النيل، إلى قيام تجمعات سكانية ونشوء قرى ومدن انبثقت وتطورت فيها الأفكار والمعتقدات الدينية.
كما أدى وعي العلاقة بين النهر والزراعة إلى نشوء علوم الحساب والمساحة وابتكار المقاييس والأطوال والمكاييل والنظام العشري، وبرزت الحاجة إلى معرفة الأيام والتواريخ والتقويم... وكانت النتيجة بروز الحاجة إلى لغة مكتوبة، سرعان ما تكشفت عبقرية المصريين عنها فنشأت اللغة الهيروغليفية. وهكذا هي أحكام التطور.. فما أن يتمكن المجتمع من تلبية حاجة من متطلباته حتى تبرز له حاجة أخرى.
فالحاجة إلى نقل المنتجات الزراعية والبضائع من منطقة إلى أخرى، قادت إلى التفكير في بناء السفن، وقد دفع ذلك التفكير بالمصريين إلى التوجه نحو بلاد الشام وجزيرة كريت وشرقي إفريقيا وبلاد العرب لمقايضة منتجاتهم.
وكانوا ينشرون تجربتهم، حيثما رحلوا، ويتعلمون من تجارب الآخرين ومن خبراتهم، وتلك هي نواميس الكون.
ويمكن القول، إن ما ميز الحضارة المصرية، أنها نشأت في بيئة زراعية نهرية، مختلفة تماماً عن البيئة الزراعية المطرية، ففي الأخيرة يكون الجهد البشري أقل بكثير عنه في زراعة الري؛ إذ يتوقف العمل أو يكاد مباشرة بعد إعداد الأرض والبذر حتى موسم الحصاد.
ولذلك ليس هناك من حاجة تستدعي حفر الترع والمصارف، وإقامة الجسور والسدود، والأهم من ذلك كله، أن الزراعة المطرية تحمل في ثناياها طابعاً قدرياً، فليس بإمكان أحد، أي كان أن يحبس المطر عن الفلاح، أو يتحكم في توزيعه.
والزراعة المطرية، عرضة لذبذبات المناخ، وفلاحها من ثم لا حول له ولا قوة، فهو تحت رحمة الطبيعة، وليس له سوى الانتظار.
ولذلك لم يكن بمقدور الفلاح القديم في بيئة الزراعة المطرية التخطيط والتحكم بنزول الأمطار. ومن هنا أصبحت الطبيعة سيدة له، لكنه بعد ذلك يبقى سيداً لنفسه.
إذ لا دولة ولا نظام ولا قانون يحكم مصيره ووظيفته الزراعية، سوى تلك التي تفرضها الطبيعة، عطاء وحرماناً، وهذا ما جعل نفسية الفلاح في الزراعة المطرية فردية بدرجة أو بأخرى.
أما في بيئة الري الفيضي، فالأمر مختلف جداً، فالوادي في المراحل التاريخية الأولى لنشأته لم تكن له مصارف طبيعية، لكنه كان مستنقعاً، وبؤرة لتجمع الحشرات، ومخزناً للبعوض وأمراض الملاريا.
وكانت زراعته شبه مستحيلة لو لم تطاله يد الإنسان بجهد جماعي ضخم، قبل أن يتأتى إعداد الأرض لاستقبال البذور.
وبضمن ما تطلبته تلك الاستعدادات، توصيل المياه إلى الحقول عن طريق بناء شبكة كثيفة مغطاة من الترع، بمختلف الأحجام، ابتداء من قنوات الحمل وقنوات التغذية إلى سواقي الحقول.
والخلاصة أن الفلاح لم يكن بمقدوره، أن يزرع الأرض في هذه البيئة لو لم يعد خلق الطبيعة من جديد... ولكي ينجح الفلاح في زراعته، فإنه لا بد له بعد ذلك من السيطرة على توزيع المياه عن طريق بناء القناطر والسدود، وأكثر من ذلك، فإن استمرار هذا النجاح يتطلب تنظيم حركة الفلاحين وتحديد ضوابط لها فيما يتعلق بالثروة المائية وعلاقتها بري الأراضي الزراعية.
فعدم تنظيم توزيع هذه الثروة في الري الفيضي كان من الممكن أن ينتج عنه صراع المصالح بين الناس؛ بحيث يتمكن من له الغلبة في هذا الصراع من الاستحواذ على الثروة المائية وحرمان غيره منها.
لقد أدرك رفاعة رافع الطهطاوي، أحد أركان النهضة المصرية الحديثة، أهمية الوحدة المائية بالنسبة لمصر، فربط بين أسباب التفكك السياسي لعصر المماليك وبين فوضى توزيع الثروة المائية، فأشار إلى أن من أسباب تفكك عصرهم أنه «كان في أيامهم لكل قسم وكل قرية ترع وجسور خصوصية لا ينتفع من السقي منها إلا أهاليها ولم تكن بينهم روابط عمومية، فكان أصحاب الأراضي والمزارعون المجاورون شطوط الماء يحتكرون الري والسقي ويختلسون من المياه ما هو قريب منهم ويمنعون الأراضي البعيدة من ذلك مع كونها لها حق في مشاركتهم في المياه عند الفيضان. فكان ينشأ من هذا ما لا مزيد عليه من عداوة قرية لأخرى، وربما ترتب على ذلك القتال وسفك الدماء».
وهكذا وجد الطهطاوي، تفسيراً لظاهرة تاريخية طبعت الحياة المصرية، تلك هي قيام السلطة المركزية الموحدة واستمرارها عبر تاريخ وادي النيل الطويل.
إن تجنب القتال وسفك الدماء، في مثل هذه البيئة، يقتضي تأسيس تنظيم اجتماعي قوي ومتماسك يضمن استمرار الحياة، ويكون على رأسه حاكماً يقوم بتوزيع العدل والماء بين الناس.