جون لوك: لا تسامح مع الالحاد
اعتنى المفكر الإنجليزي جون لوك «1632 - 1704م» بفكرة التسامح، واشتهر بكتابه الوجيز الموسوم بعنوان: «رسالة في التسامح» الصادر باللغة اللاتينية سنة 1689م من دون توقيع اسمه عليه، وما إن عرف في وقته حتى توالت ترجماته وتتابعت عابرة المجتمعات الأوروبية، ممتدت إلى اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية، وقد مثل لاحقا نصا كلاسيكيا بات يؤرخ له في تاريخ تطور فكرة التسامح في ساحة الفكر الأوروبي الحديث.
في هذه الرسالة أعلن لوك وبشكل واضح وصريح رفضه التسامح مع الملحدين ومنكري وجود الله، واضعا حدودا للتسامح، مقدما نصا مهما، بقي وما زال يلفت الانتباه في كل حديث يتعلق بالتسامح، وفي كل حديث يتعلق بالالحاد.
وتحدد هذا النص على لسان لوك قائلا: «لا يجوز أبدا التسامح مع من ينكرون وجود الله، ذلك أن الوعود والمواثيق والأقسام التي هي روابط المجتمع الإنساني، لا حرمة لها ولا اعتبار عند الملحد، لأن استبعاد الله حتى لو كان بالفكر فإنه يحل كل شيء، وفضلا عن ذلك فإن من بالاحاده يقوض ويحطم كل دين، لا يمكنه باسم الدين أن يطالب بحق التسامح معه».
أمام هذا النص فحصا وتبصرا، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولا: من الناحية الاعتبارية، لا شك في أهمية هذا الموقف وجديته وخطورته، خصوصا وأنه ينتسب إلى مفكر في وزن جون لوك الذي يعد من الفلاسفة الكبار في تاريخ تطور الفلسفة الأوروبية الحديثة، وحين تطرق إليه الكاتب الأمريكي وليم كلي رايت «1877 - 1956م» في كتابه «تاريخ الفلسفة الحديثة» الصادر سنة 1941م، قال عنه: وعرف لوك بوجه عام بأنه فيلسوف العصر العظيم.
الأمر الذي يؤكد أهمية موقف لوك وجديته، وضرورة الالتفاف له عند كل حديث يتعلق بظاهرة الالحاد، ولا ينبغي تغييب هذا الموقف ولا إهماله أو حجبه، أو الانتقاص من أهميته وجديته.
ثانيا: من الناحية البيانية، كان من اللافت في كلام لوك أنه عبر عن موقفه ببيان جازم وقاطع، بطريقة لا تقبل الشك أو النقض، مستخدما عبارة «لا يجوز أبدا التسامح مع من ينكرون وجود الله» حسب ترجمة المفكر المصري الدكتور عبدالرحمن بدوي «1917 - 2002م»، وعلى ترجمة أخرى «ولا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود الله» حسب ترجمة الأكاديمية المصرية الدكتورة منى أبو سنه أستاذ الأدب الإنجليزي التي أنجزت ترجمة ثانية لرسالة لوك صدرت سنة 1997م، راجعها وقدم لها الدكتور مراد وهبة.
يفهم من كلام لوك أن موقفه من الالحاد لا يقبل من جهة الشك أو النقض ولا المحاجة أو المجادلة، ومن جهة أخرى لا يقبل التغيير أو التبديل، الجهة الأولى تتعلق بالآخرين حيث سد عليهم باب النقض والمجادلة، والجهة الثانية تتعلق به ذاتا حيث سد عليه باب التغيير أو التبديل، معلنا الثبات على موقفه، ومتمسكا به رغم توالي الأيام، وتبدل الأحوال، وتعاقب الأزمان، كاشفا عن شدة ثقته وموثوقيته تجاه هذا الأمر.
ثالثا: من الناحية التعليلية، قدم لوك تعليلا لموقفه الصارم في رفض الالحاد، له علاقة بعالم الاجتماع الإنساني، وتحديدا بتلك الروابط التي يعدها روابط المجتمع الإنساني عامة، ويقصد بها القسم والوعود والمواثيق، مكونا علاقة تفاعلية بين الإيمان والمجتمع، ناظرا إلى الالحاد من منظور اجتماعي، قد يندرج في إطار علم الاجتماع الديني، معتبرا أن تلك الروابط الاجتماعية العامة لا حرمة لها عند الملحد ولا اعتبار، ومنبها بأن إنكار الله حتى لو كان بالفكر فإنه يحل جميع الأشياء ويفككها.
ومع أن لوك كان متجها في خطابه إلى المجتمع المسيحي الذي ينتسب إليه، إلا أنه صاغ بيانه بوصفه فيلسوفا ناظرا لهذه القضية في إطار الاجتماع الإنساني العام الذي يتخطى حدود المجتمع المسيحي ولا ينحصر عليه، ملتفتا لأثره في باقي المجتمعات الإنسانية الأخرى، وذلك لكون أن الملحد هو الملحد لا تتغير حقيقته ولا تتبدل في أي زمان ومكان، لا فرق في ذلك ولا اختلاف بين المجتمعات المسيحية أو المجتمعات الإسلامية أو البوذية أو الهندوسية أو غيرها من المجتمعات الأخرى.
رابعا: من الناحية الحقوقية، يرى لوك أن الملحد الذي يقوض كل دين ويحطمه لا يمكن باسم الدين أن يطالب بحق التسامح معه، فلا حق له بالتسامح في أن يعمل ما من شأنه أن يقوض الدين ويحطمه، ولا حق له أن يطالب بالتسامح الذي يقره الدين لكونه لا يقر بهذا الدين، ويقف في الموقف المعاند له والمعارض.
جاء هذا الرأي لكون أن لوك كان بصدد الحديث عن التسامح الديني، رابطا التسامح بالدين، وناظرا إلى التسامح من جهة الدين، مكتفيا بالتسامح الديني، متجاهلا أقسام التسامح وأنواعه الأخرى، وبهذا النوع من التسامح الديني تحددت رسالته وانحصرت، وهكذا عرفت بين الكتاب والباحثين في عصره وما بعد عصره.
هذا الموقف الصارم من لوك توقف عنده وناقشه معظم الذين درسوا آراء لوك تجاه الدين والإيمان الديني، وتجاه التسامح والتسامح الديني.
وحين تتبع الدكتور عبدالرحمن بدوي الملاحظات المسجلة على رسالة لوك، أشار في خاتمة تقديمه إلى ملاحظتين لا غير، الملاحظة الأولى تعلقت بهذا الموقف من لوك تجاه عدم التسامح مع الملحدين، وترتب عليه اعتبار البعض أن التسامح الذي يدعو إليه لوك هو تسامح قاصر ومحدود.
ومن جهته رأى الدكتور بدوي أن تبرير لوك في عدم التسامح مع الملحدين، لكون أن من لا يؤمن بالله لا عهد له، ولا يوثق به، هذه الحجة في نظر بدوي لا دليل عليها، فليس من الضروري أن يكون من ينكر وجود إله ينكر كذلك الوعود والعقود والقسم وحسن النية..
هذا في نظر بدوي، أما في نظر لوك فإن من ينكر وجود الله فإنه لا إيمان له بالعهود والعقود، لأن لا إيمان له بشيء في الحياة.