ضبط النفس
التوازن بين ضبط النفس واندفاعها، هو أمر يمس كل جزء من حياة الإنسان، وله تأثير كبير على صحته ومستقبل علاقاته مع الآخرين. ضبطك لنفسك يعني قدرتك على تحمل الأذى من أجل مصلحة أكبر. والأهم من ذلك هو قدرتك على أن تحول هذه الحالة من التوازن النفسي إلى عادة تعمل في صالحك كيف ومتى رغبت.
قبل عدة أعوام، التقيت بزميل لي لم أراه لفترة طويلة، لكونه يقطن في مدينة أخرى ليست بالبعيدة كثيرًا عن مكان إقامتي. سعدت كثيرًا بلقائه، لكن حدث أمرٌ مفاجئ أفسد اللقاء برُمّته. لا أخفي عليكم أن الرجل قد تغيرت ملامحه بشكل يلفت الإنتباه، بما فيها شعر رأسه الذي تحول بالكامل الى اللون الأبيض.
على غير عادتي، ودون تفكير يُذكر، سألته سؤالًا فضوليًا عن الشيب الذي غزا رأسه. لم أكن أتوقع أن يكون وقع السؤال عليه شديدًا وبتلك الحدة، إذ كانت ردة فعله غاضبة وقاسية وغير مدروسة. الرجل تلفظ بجملة ما زالت راسخة في ذاكرتي الى هذه اللحظة: ”فلان أفضل منك“ وحدده بالإسم.
تسمّرت مكاني ولم أنطق بكلمة واحدة، لما انتابني من ذهول واستغراب. ما شاهدته عيناي من تصرف لشخص عهدته كبيرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، كان أمرًا غير طبيعيا من رجل فطن، لا يتفوه بكلمة إلا بعد أن يزنها. الرجل مرحٌ، ذو ابتسامة عريضة، لا تكاد تفارق فاه، هكذا عهدته عندما كان شابا لا يتجاوز عمره العشرون ربيعًا. سبحان مغير الاحوال.
في أقل من دقيقة أو حولها، كنت أعيش حالة التصديق والإنكار لما سمعت ورأيت، في هذه اللحظة أخذ كل منا طريقه ووجهته التي هو موليها. لم تدم القصة أكثر مما تعتقد، فقد وصلت الى خواتيمها، أو هي تكاد كذلك. التجارب علمتنا أن النهايات ليست كالبدايات، قليلا ما تأخذ الوقت المستحق لها. النهايات لا تتعدى كونها روايات غير مكتملة، أو هكذا نحسبها.
ما يدعو للأسف، أن بعض الناس ”الموهوبين“ يغتالون نجاحاتهم من خلال ما يمر عليهم من أحداث حياتية، تجعلهم في حالة من التفكير اللا إيجابي والتيه في الظلمات إلى أمد غير معلوم. هكذا هو حالهم، ضياع وسفر الى المجهول، الا من رحم ربي. أحداث قد تمر على الجميع، لكن أن يستسلم الواحد منا للظروف المحيطة به، الى الحد الذي يفقده صوابه لأتفه الأسباب، هذا ما يدعونا للتوقف وإعادة النظر.
لا أنكر أني أخطأت في حق هذا الزميل، خاصة وأني لم أكن أعرف الظروف التي مر بها طوال تلك الفترة الطويلة من القطيعة والتي لم ألتقي به، أو حتى أسمع عنه. وإن كان يقرأ مقالتي هذه، فإني أقدم له التحية وأستميحه العذر فيما صدر مني.
عزيزي القارئ، خذ وقتك الكافي من التدقيق والتمحيص والتبصر في القصة القصيرة التي قرأتها للتو، فلربما توصلك قناعتك بأن الطرف الآخر يستحق جزءًا من اللوم هو الآخر، وأن ردة فعله كانت متسرعة، وأنه أهمل رافدًا مهمًا من روافد الإدارة التي يجب توافرها في الشخصية المسئولة، ألا وهو إدارة الذات؟ ألم يكن بإمكانه مثلًا، أن يكون أكثر روية وعقلانية، ويبدي شيئًا من النصح لزميل له، ربما خانه التعبير فتلفظ بما يعتقد الآخر أنها إهانة له، على الأقل في تلك الدقائق القليلة من ذلك اللقاء الغير موفق.
أن تكون من ضمن الأفراد الذين لديهم درجة عالية من ضبط النفس في المواقف الصعبة، لا يجعلك بالطبع شخصًا ذو مواصفات خارقة، أو خارجة عن المألوف. نحن عندما نتحدث عن صفة ضبط النفس، فإننا لا ننظر إليها من زاوية أنها عادة حميدة وكفى، بقدر ما نثمنها على أنها من أهم المهارات الذاتية التي تمكن الفرد من تسخير الكثير من تفاعلاته اليومية لتعمل في صالحه.
كل منا يختار لنفسه الشخصية التي تتواءم ومعطيات البيئة والحياة الإجتماعية الراهنة. التحكم بالنفس له علاقة ببرمجة عقلك بالطريقة التي تريده أن يعمل بها في الرخاء والشدة.
لا يمكنك التحدث عن التطور بشكل عام والتطور الذاتي بشكل خاص، دون التحدث عن القيم الإنسانية التي يعمل عليها الإنسان ويتبناها لتكون له بمثابة المرجع الذي يلوذ إليه وقت الحاجة. أما عن التعليم الأكاديمي وما يتلوه من دورات تدريبية وتطويرية فهي لا شك أمر مطلوب للتطور الوظيفي. ما يجب التوقف عنده، إذا لم يكن لذلك التعليم والتدريب والتأهيل الوظيفي دور في بناء وصقل وأنسنة شخصية الفرد والارتقاء بها إلى مصافي الأنفس الواعية، فبئس له من علم لم ينفع صاحبه إلا من قليل.