حول تطور الأزمة بين أمريكا وإيران
إذا كان صحيحاً أن بعض الحكومات تلجأ إلى الحرب، كوسيلة لتصدير أزماتها الداخلية، فإن الصحيح أيضاً، أن الأوضاع الداخلية، ربما تكون سبباً في عدم اللجوء إلى الحرب. هذه المقولة لا تجد لها مكاناً تتمثل فيه أكثر من الأزمة الدائرة الآن بين إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والحكومة الإيرانية.
فرغم التلويح الأمريكي المستمر، خلال الأيام الأخيرة، بشن الحرب على طهران، لكن الرئيس الأمريكي يمارس سياسة الكر والفر، ليس في ساحة القتال، بل في ساحة التصريحات التي تتراوح بين التهديد بحرب لا تبقي، ولا تذر، وبين دعوة طهران للدخول في مفاوضات مباشرة، مع واشنطن، من دون قيد، أو شرط.
والواقع أن هذه السياسة باتت نهجاً مستمراً للرئيس ترامب، في معظم الأزمات التي شهدتها إدارته مع بلدان العالم، سواء كانت هذه الأزمات اقتصادية، أو عسكرية، أو سياسية.
في الأسبوع، الماضي بلغ التهديد الأمريكي بضرب إيران أعلى مدى له. وقيل أن الرئيس ترامب حدد يوم الخميس الماضي، موعداً لتوجيه ضربة لعدد من المواقع العسكرية، في إيران. لكنه فجأة تراجع عن هذه الخطوة، وأبان في أحد تغريداته، أن سبب التراجع هو أن تلك الضربات كانت ستتسبب بمصرع مئة وخمسين من الإيرانيين، وأنه لا يرغب في إلحاق خسائر بشرية بينهم. وهكذا وفي لمحة بصر، تحول الذئب إلى حمل وديع، وحمامة سلام.
لا أحد، في عالم السياسة يمكن أن يصدق أن سبب تراجع ترامب عن توجيه الضربة لإيران، هو خشيته من إلحاق خسائر بصفوف الإيرانيين. ولو كان كل زعماء العالم وضعوا نصب أعينهم عدد الخسائر التي ستنتج عن الحروب التي خاضوها لعمّ العالم السلام، ولما خاضت بلاد ترامب أي حرب من الحروب التي تسببت بمقتل الملايين من البشر. وترامب يعلم هذه الحقيقة، بكل تأكيد. فلا حروب من غير خسائر بشرية، تلحق بالمهزومين والمنتصرين، على السواء، وإن كانت نسبها أقل في صفوف الطرف الأقوى.
لماذا إذاً، لم ينفذ ترامب وعده بتوجيه ضربة عسكرية ضد أهداف حيوية في إيران؟
نتذكر في هذا السياق، أن هذه ليست المرة الأولى التي يتراجع فيها رؤساء أمريكيون عن توجيه ضربة لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد أشرنا في حديث سابق، إلى أن جبروت الجغرافيا، كان حاضراً دائماً لحماية هذا البلد، في كل مراحل العصر الحديث. ولن نعود مجدداً لمناقشة هذا الأمر، بعد أن أشبعناه تركيزاً وتحليلاً، في مقالات سابقة.
ما سنركز عليه في البقية الباقية من هذا الحديث، هو قراءة الأسباب المباشرة التي منعت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، من تنفيذ تهديداته التي أطلقها في الأسابيع الأخيرة ضد طهران. ولعل من الأهمية التذكير، بأن سياسة ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لم تتطابق في كثير من الحالات مع سياسة الدولة العميقة، وتحديداً، وبشكل خاص مع سياسة «البنتاجون»، ووكالة الاستخبارات الأمريكية. والأمر لا يختلف عندما يتعلق بمواقف وسياسات الكونجرس الأمريكي، الذي يمثل الديمقراطيون أغلبية أعضائه. وقد باتت هذه الحقيقة من الجلاء والوضوح، في معظم المحطات خلال عهد الرئيس الحالي.
على سبيل المثال لا الحصر، لم تتوافق الدولة الأمريكية العميقة، مع سياسات ترامب تجاه الاتحاد الأوروبي، ورفضت «البنتاجون» بقوة، تهديدات ترامب بسحب المظلة النووية من السماء الأوروبية، إذا لم تخضع دوله لسياسته الاقتصادية الجبائية. ووضع خطاً أحمر في مواجهة هذه السياسة. كذلك كان هناك خلاف حاد بين الرئيس والدولة العميقة، حول المكسيك، وتهديد ترامب، ببناء جدار عازل بين البلدين، لمنع تدفق المهاجرين من المكسيك إلى بلاده. هناك أيضاً رفض من الدولة العميقة، لسياساته المتراخية حيال حماية البيئة، والخلافات بينه وبين المتنفذين في الدولة كثيرة، وكبيرة، وليست بحاجة إلى إثبات.
لكن ذلك لا يعني، خلو الساحة من اليمينيين المتطرفين الذين يدفعون بترامب نحو الهاوية، ومثل هؤلاء باتوا معروفين للرأي العام، وللمتابعين لمجريات السياسة الأمريكية، من أمثال كوشنر، وجون بولتون. وهؤلاء هم الذين يدفعون بترامب لإطلاق تصريحاته غير الواقعية، لتقوم الدولة العميقة لاحقاً بإجبار الرئيس على التراجع وترصين مواقفه تجاه معظم القضايا التي أثيرت في عهده، والتي أشرنا إلى بعضها على سبيل الأمثلة.
هناك حقائق عدة تدفع بالدولة الأمريكية العميقة لترصين مواقف أمريكا في الحرب الباردة مع طهران. أهم هذه الحقائق أن الموقف الأمريكي الأخير لا يحظى بتأييد من المجتمع الدولي، ولا من حلفاء أمريكا في القارة الأوروبية. فضلاً عن أن موازين القوى الدولية قد تبدلت، في السنوات الأخيرة، بحيث لم تعد أمريكا هي اللاعب الأوحد في الساحة الدولية.
وفي هذا السياق، يرى البعض أن الصمت الروسي والصيني، تجاه تهديدات ترامب لإيران، مصدره ثقة القيادتين، في بكين وموسكو، بأن ترامب ليس بمقدوره شن الحرب على طهران، خارج دائرة التوافق مع الدولة العميقة. ولو رأوا الأمر مختلفاً، لكانت لغتهم ستكون مختلفة، وسيكون لهم حضور قوي لمصلحة طهران في هذا الصراع.
لا نزعم في هذا الحديث، باستحالة توجيه ترامب ضربة عسكرية لطهران، ولكن مثل هذه الضربة، إذا ما حدثت ستكون محدودة، ومحسوبة نتائجها، وستكون بالتراضي بين كل الأطراف، في أمريكا وخارجها، وربما تكون طهران ذاتها ضمن دائرة هذا التوافق. والأيام القادمة حبلى بالأحداث، وليس علينا سوى الانتظار.