آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 11:37 م

أمنيته سيجارة بين أصابعها

جمال الناصر

لم يضرب موعدًا معها على ضفة الشوق، أو الحرمان، كانت الدقائق حبلى بالألفة، التي تمثل جاذبية الصمت، ورائحة دخان سيجارتها. استفز الشاعر الحالة الوصفية، التي جعل منها، مركزية انطلاقته في نسج كلماته، ومقارعة اليراع، وذاته، تأمل عينيها في المسافات، لحظة عناق الشفتين، بزاوية السيجارة، انصهار ذاتها، عمق أنفاسها في انبعاث لون دخان سجارتها.

هي، الثلاثية المشهد، فسحة بعمق الذات، وخارج نافذته، العلاقة بينهما، استدعاء ما ألهب الكلمات، لتأتي هكذا.

تكمن رؤية النص، في مشهد درامي، أراد الشاعر تصويره بأحرفه، ليعيش ضمنه، وفيه، لينطلق منه، إلا أنه لم يبحر خلاله في استشراف معاني باتساع أفقه، ليكون في عملية حوارية، تتوقف في المشهد، يناغيه، واضعًا أمنياته، أن يكون في ظل السيجارة، يمنحه الأنثى، ما تمنحه سيجارتها من دفء شفتيها، ومن احتراق داخلها بما تحتويه.

ثمة سؤال، هل التمني، يعد نتيجة الانكسار، يبدأ الشاعر نصه، بالتمني، الأمنيات، أتصنف نتيجة الانكسار، يأتي التمني، الأشياء، التي يصعب الحصول عليها، أو بعيدة في الواقع حدوثها، يتنفسها الإنسان في أمنياته، ما يشعل ذروة السؤال، حين يطلب الأمنية، بأن يكون في مكان سيجارة بين شفتي أنثى طرية الملمس، ليبدو بأنه انكسار، غربة الذات بين أنامل معشوقته، آهاته في لحظة لقاء، أنينه في البعد، وعدمية النافذة، التي تطل منها، هذه العشيقة، كخيوط الشمس، تجعله، يتمنى أن يكون سيجارة، تعانق أصابعها، تداعبه في مداعبة سيجارتها، وتناغيه في أنينها. هنا، قد يبدو منكسرًا، نقول: وانكسار القلب في عشق أنثاه، ارتقاء في العشق، وسلامة في القلب.

في الوهلة الأولى، قد يستشعر القارئ، بأن النص، كشوكولاته، يوزعها الشاعر على المراهقين، أو الذين يستأنسون في الكلم، المتشبث بأذيالها الأنثى، لتنتهي رغوة النص بمجرد أن تمر عليه ريح ربيع، أو خريف. يختزل النص بين دفتيه في جانبها البلاغي - الجمالي - مضاجعة التراكيب اللفظية، للوصل إلى معان ضمنية هنا، أو ظاهرية هناك، يسكب عليها طراوة ما، يستشعرها القارئ، أثناء قراءة النص، أو الإصغاء إليه.

أن يبدأ النص بالتمني، ماذا يعني ذاك؟!، - ربما -، أراد الشاعر، أن يدغدغ قارئيه، أن يبعث فيهم ما يسميه علماء النفس بحب الاستطلاع، الذي يكمن في الإنسان، ليجيب العقل الباطن للمتلقي، ماذا يتمنى هذا الشاعر القادم من قرى العشاق، التي لا تبصر العشق، إلا في أحرفها، وبعض خيالات عشاقها.

يقول:

ليتني الدخان المنهمر بين شفتيها

ليتني تلك السيجارة التي تحرق دمها

بعض نكوتينٍ يسري في عروقها الشهية حدّ الجنون

المسافر في لونيَ الأبيض

يرى أن علاقتها، مع السيجارة، الاشتهتاء حد الجنون، هذا في ظاهرة الكلم، الالتواء عبر السياق، بكونه الاشتهاء، يسافر في لونه الأبيض، هي مجنونة به، هل يريد إن يوصل لنا هذا الاشتهاء، لدينا الإحساس بأنه أراد ذلك.

وفي موضع، يهمس:

كم تمنيتُ أن تُدمِنَنِي تلك البائسة

أحيانًا أشعر أنِّي أقتلها حين تستنشقني، أو حين تقبلني بشفاهها الملساء

هنا، يغمض عينيه، يعيش فيها، كسيجارة أناملها، متحدثًا، أنه يقتلها في استنشاقها إياه، حيث أن السيجارة، تعتمد على الاستنشاق في التعامل البشري معها، أو في تقبيلها له، قبلة ملساء لينة الظل. إنه جعل الاستنشاق أولاً، ثانيًا التقبيل، وهذا ما يطلق عليه بلاغيًا ونحويًا، تقديم ما حقه التأخير، وذلك يأتي هدف بلاغي، يراد جنيه. في الضفة الأولى، الاستنشاق، لتبيان لوعة الأسى، الحرمان، الضفة الأخرى، القبلة الملساء، دلالية على الشوق والاشتياق، وما بين ذاك وهذا، احتواء الدائرة، كزئبقة، تبدأ، لتنتهي، وتبدأ مجددًا.

حلمها اليافع لم يكن قادرًا على صنع حياتها

رحلت بعد بضع ارتشافات سافلة، فشكلتني خيوط دخان تنتحر سريعًا.

كان كل شيء ينتهي، كسيجارة تمر سريعًا في فم أحدهم

نظراتها، كخيوط دخان تتلاشى

أنفاسها تشتهي تلك الحياة العبثية

حسبتني جميلاً في حلمها الوردي.. ربما

وفي موضع آخر، تجيء تعبيرًا عن انتهاء رحلة الشوق، هكذا العشاق، يرحلون بسرعة، كامتهاء دخان سيجارة، تجمعهم الأيام الطوال، لينتعش العشق بينهما، وفي لحظة ما، سريعًا، ينتهي كل شيء، كأنه لم يكن.

لستُ واثقًا بما يكفي، فكلي مشوش محترق مثل جمر

تلك السيجارة التي تهدد وجودي

رئتاها تنثر في فمي العطر دومًا

لكم تمنيتُ ارتشافي مرة أخرى تلو أخرى، لأصبحَ دخانها الأبدي.. شكل أظافرها.. من يقنعها لترك ذلك السمّ واستنشاقي كعطر يجلب الياسمين

في نهاية النص، يؤكد ما تأملناه بداية، بقوله:

من يقنعها لترك ذلك السمّ

واستنشاقي كعطر يجلب الياسمين

إذًا..، لتقنعوها.