آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:20 ص

النسوية المتطرفة والذكورية المتسلطة

رائد قاسم *

يبرز مصطلح النسوية كتيار يهدف الى وضع اسس جديدة للعلاقة بين الرجل والمرأة والمساواة بينهما وازالة كافة قوانين التهميش والتمييز ضد النساء، والحقيقة ن هذا التيار تعرض كغيره من التيارات الايدولوجية الى نشوء قوى واتجاهات معتدلة ومتطرفة، وهذه ظاهرة طبيعية على كل حال، اذ انها موجودة في معظم ان لم يكن في كافة الحركات السياسية والجماهيرية.

والحقيقة ان كل حق تقابله مسئولية بالضرورة، وكل حرية يقابلها التزام، ولعل الالتزام بالقوانين المنظمة للحريات والحقوق اكثر صعوبة بكثير من الالتزام بالقوانين الشمولية، ففي البلاد التي تصنف على انها تسلطية وتحظر فيها الدولة بقوة ككيان تسلطي قمعي، تمارس الدولة ايضا دورها ككيان رعوي، وبالتالي تتحمل الدولة المسئولية كاملة، بينما تقل بكثير المسئوليات الملقاة على عاتق المواطنين، بعكس البلدان الديمقراطية، حيث يشارك المواطنون بفعالية في الكثير من شئون البلاد، ويساهمون في الميزانية العامة من خلال الضرائب، وانتخاب مسئولي السلطات التنفيذية والتشريعية، ويدفعون تكاليف الخدمات العامة او يتقاسمونها مع الحكومة، وذلك في مقابل حقوق وحريات واسعة النطاق وفي اطار قانون يبجل الفرد ويحترم خصوصيته وحقه في العيش باستقلال واقل قدر من حضور السلطة العامة.

نفس هذا المسار ينطبق بقوة على النسوية المتطرفة التي تقابلها الذكورية المتسلطة، فالنسوية المتطرفة تسعى الى تحويل الزواج كمؤسسة ونواة للمجتمع الى نظام حقوق وواجبات متساوية بين الرجل والمرأة في مقابل نظام ولاية الرجل على المرأة والاسرة في اطار الزواج، في الوقت الذي تتجاهل فيه دور الرجل في الانفاق، فالرجل الذي يتحمل المسئولية المالية كاملة، ابتداء من نفقات الزواج التقليدية، وانتهاء بالإنفاق على الاسرة بشكل تام، فإنها تريد ان تسقط ولايته وتحول العلاقة الى حقوق وواجبات متوازية من دون اسقاط لهذا الجانب الذي يصب في صالح المرأة، وهنا يكمن التطرف ويظهر بكل تجلي، حيث تتحول النسوية الى قوة متطرفة قمعية خارجة من نفس البيئة التي خرجت منها الذكورية التسلطية وتمارس نفس ادوارها، وتهدف الى تحقيق نفس غايتها القائمة على القمع وسلب الحقوق وتهميش الاخر.

في حال ارادت الحركة النسوية تغيير جوهري في مؤسسة الزواج في اطال تحول مدني منسجم مع الثقافة الانسانية المعاصرة، وتأصيله من خلال تنظير عميق لشئون الحياة الانسانية فعليها ان تنظر للأمر من منظار مدني حقيقي قائم على التفاعل الايجابي والحوار البناء لوضع قوانين جديدة قابلة للتطبيق والاستمرار لتؤسس فعلا لنظام حياة جديد وعصري.

فعلى النسوية ان تطالب ايضا بأسقاط انفاق الرجل وتحمله تكاليف انشاء الاسرة ليكون الانفاق بالتساوي بين الزوجين، ليتحول الزواج الى مسئولية مشتركة وشراكة بين طرفين متكافئين متساويين، لان الانفاق هو الذي يمنح الرجل حق الولاية وهي المسوغ الذي يتحول فيه الرجل الى رب الاسرة وسيدها، وتتفرع منه كافة العادات والتقاليد المتوارثة المبنية على السلطة الابوية البطريركية التي تستند بدورها على سيطرة اقتصادية استبدادية برجوازية اقطاعية ممتدة على مدى مئات السنوات والتي اسست بنى تحتية ضخمة من العادات والنظم والثقافات المتوارثة والراسخة.

كما ان الزواج المبني على هذه الاسس الجديدة يجب ان لا يكون اجباريا قهريا بقدر ما يكون اختياريا وخاضعا لثقافة وقناعات الافراد حتى لا يكون نتاج قوى تشريعية متشددة ونرجسية.

لا اشكال ان النسوية المتطرفة ظهرت كردة فعل على الذكورية التسلطية، حيث نشا كلاهما في مجتمع قائم على صراع القوى لا تنافسها، وعلى تحول السلطة الى غاية لا وسيلة، والى تمتع الطبقات الغنية والمترفة بالامتيازات والحقوق على حساب بقية الطبقات والشرائح الاجتماعية.

ولعل اهم ما تدعوا اليه النسوية المتطرفة هو حظر تعدد الزواج، فاذا ما كانت الذكورية التسلطية اتخذت من النساء اماء وسلعة وتجارة وتعدد زوجي في سياق مراحل تاريخية متعاقبة، كأشكال متنوعة وواضحة من قوة الرجل وتسلطه وتحكمه بالمرأة، فأن مكمن التطرف في النسوية هو في الاقتداء بنظام الزواج المدني في المجتمعات الغربية والتي تحرم وتجرم الزواج المتعدد، اذ تظن النسوية انها بذلك تنتصر للمرأة وتدفع بمكانتها نحو المساواة مع الرجل، ومكمن التطرف هنا هو في اخذها لقانون حظر تعدد الزواج دون النظر الى القوانين الاخرى المرتبطة به، ففي البلدان الغربية عامة يحظر القانون تعدد الزواج، سواء كان طبيعيا او مثليا، الا انه يجيز للرجل اتخاذ العشيقات واقامة العلاقات الجنسية بكافة اشكالها، ويعترف بالأطفال الناتجين عن هذه العلاقات ويمنهم حقوق كاملة، بل انه في العديد من البلدان الغربية يحق للشريكة في حال انفصالها عن شريكها ما يحق للزوجة من المال والامتيازات الاخرى التي يكفلها القانون في حال الانفصال الذي يعد مفهوما اوسع وارفع واكثر مساواة من الطلاق كمصطلح ومفهوم ناتج عن الثقافة الذكورية السائدة.

فالحريات الجنسية مكفولة هناك وتعد جزء من الحقوق الفردية والمدنية، ولا يعد الزواج المسار الوحيد لتفريغ الطاقة الجنسية والعاطفية، فالنسوية المتطرفة التي تقول بأن المرأة ليست سلعة وتسعى لإلغاء التعدد تجاهلت تماما واقع الحريات الجنسية التي استندت عليه في مطالبها بإلغاء الزواج المتعدد.

واذا ما كانت الذكورية التسلطية تتعامل مع المرأة على انها انثى في كافة اطوارها وفي كافة مجالات الحياة، وتمنحها بناء على كينونتها الانثوية حقوق اقل وتمارس عليها تهميشا وتمييزا عنصريا واسع النطاق، فأن النسوية المتطرفة تنظر للمرأة على انها انثى ايضا وتطالب بمنحها حقوقها وحرياتها ومساواتها بالرجل في نطاق انثوية المرأة واعتبارها انثى الانسان لا انسان، وان هذا من اكبر وافدح الاخطاء التي وقعت فيها الحركات الحقوقية لا سيما في عالمنا العربي، خاصة تلك المطالبة بحقوق الاقليات العرقية او الطائفية او الجندرية، فالمطالبة بالحقوق والحريات بناء على الهويات الفرعية يؤدي الى ترسيخ نظم التهميش والتمييز وتعد معالجة خطا كبير بخطأ اكبر، فحصول نسبة من المواطنين على نسبة من مقاعد السلطات العامة بناء على هويتهم الطائفية او العرقية ليس سوى ترسيخ لنظم التمييز والتهميش الطائفي او العرقي، وتحويل الهويات الفرعية الى هويات عليا، وإقامة النظام العام بناء عليها، لتنشأ اشكال اخرى من التطرف والصراعات الطائفية والعرقية العنيفة.

ان النسوية المتطرفة تريد اختصار طريق الكفاح في سبيل الحقوق والحريات بالوصول الى هذه النتيجة البائسة، فالمرأة انسان ومواطن، وما حقوقها كامرأة وانثى فليست سوى حقوق فرعية في اطار هويتها الانسانية والوطنية، الا ان النسوية المتطرفة تنظر للمرأة في اطار هويتها الانثوية وتصر على كونها انثى الانسان، وبالتالي تسعى الى منحها مقاعد في السلطات العامة بناء على هويتها الانثوية، والاخطر من ذلك حصر الحقوق والحريات التي تطالب بها للمرأة من خلال هذه الهوية واسقاط هويتها الانسانية التي تشترك بها مع الرجل.

ان الحركات المتطرفة التي تحمل اجندة حقوقية لن تحقق الا مزيدا من التكريس لسياسات التمييز والتهميش، وستؤدي الى ردات فعل وتطرف عكسية وذلك بنشوء حركات مناوئة اكثر تطرفا تقع ضحيتها الاجيال القادمة في مجتمعاتنا التي تناضل اجيالها الحالية من اجل حصول ابنائها على حياة اكثر ايجابية واكثر غنى وتألقا، لا سيما على صعيد الحقوق والحريات الفردية والمدنية التي تعد الاساس للحياة المدنية المعاصرة.