آخر تحديث: 22 / 12 / 2024م - 9:12 ص

ألف باء آداب الحديث

ياسين آل خليل

بغض النظر عن مستوى لياقتك الفكرية ومكانتك الاجتماعية، هناك أوقات تحتاج فيها إلى التوقف عن الحديث وتقييم ملائمة ما تقوله، مع تواجد أناس معك لهم ثقافتهم ومكانتهم، وكذلك المناسبة وما تحمله من معاني، كما المكان الذي تتحدث فيه وما يعنيه لكل فرد من الحضور. قبل الخوض في غمار أي حديث، تأكد أن يكون لديك من المرشحات أو الفلاتر ما يكفي لمنع مرور ألفاظ لا تليق بالحفل أو التجمع، قد يتسبب في إحراج لأي من الأطراف المتواجدة. هذا دون شك يتطلب اكتساب بعض مهارات فن التحدث، علاوة على حيازة المتحدث على قدر معقول من أساسيات اللغة وأتيكيت الحديث.

بداية وقبل أن تتفوه بالكلمة الأولى، توقف وتفكر فيما تود التحدث فيه. إن من أسوأ المواقف التي يقع فيها الكثير من الناس، هي قيامهم بالحديث، ودون أن يكون هناك الحد الأدنى من مراجعة أو تفكير للموضوع المراد التحدث فيه. للأسف عندما تخرج الكلمات الى الملأ، وتصل المحادثة الى منتهاها، يكتشف هؤلاء بأنهم لم يوفقوا في نقل المعنى كما كان مرادًا له، وهنا تقع الكارثة.

أفضل طريقة لجعل الناس يعتقدون أنك تحتكم إلى مهارة الإصغاء، هي دون شك، إحاطتك واهتمامك الكامل بالشخص الذي أمامك، يتبعها العناية بحركات التواصل الغير لفظية التي تستخدمها لإيصال الكثير من المعاني، كتواصلك بالعين، لتشعر المتحدث بين وقت وآخر بأنك متابع لما يقوله. استخدامك لإيمائة هنا، او طرح لسؤال هناك، أمر في غاية الأهمية، لكونه يُشعر المتحدث بأن ما يقوله هو محل تقدير، فضلًا عن كونها استراتيجية ذكية وواعية، تنم عن القابلية والاعتراف بكينونة المتحدث ومكانته في ذلك المحفل وبين جمع من الناس.

قبل تلبية الدعوة والذهاب لقضاء بعض الوقت مع أصدقاء لك، هيئ نفسك وتسلح بمجموعة متنوعة من المواضيع التي يمكن مناقشتها في الفترات التي يعم فيها الهدوء، وبعد أن يشارك كلٌ بما لديه، ويكون الصمت هو السائد، وكأنه لا يوجد عند أحد من الحضور ما يقوله، عندها يحين دورك لتكسر فيه جدار الصمت بمداخلتك المُحَضّر لها مسبقًا، لتبعث روح النشاط في المتحدثين، وتحيي الجلسة من جديد. عليك تجنب المواضيع التي تثير حفيظة الحضور، كالتحدث عن الأمور الشخصية والمالية والعائلية لبعض الأفراد، أو حول مشاكل أحدهم الصحية، إلا إذا كان هؤلاء من الأصدقاء الذين تربطك بهم علاقة حميمية ولفترة طويلة من الزمن، وأنهم لا يحملون حساسية مفرطة تجاه تلك المواضيع بعينها، وأنك مُقدّرٌ ومحبوبٌ بينهم في جميع الأحوال.

من مبادئ آداب الحديث، معرفة كيفية تجنب ارتكاب الأخطاء التي من شأنها إبعاد الناس عنك. كن على دراية شاملة بالأخطاء الأكثر شيوعًا للحيلولة دون الوقوع في الرمال المتحركة التي كونتها نفسيات وعواطف الناس على مر السنين، والتي يصعب فهمها حتى من قبل متخصصي علم النفس والاجتماع، لما تحمله من عُقَد قد يصعب حلحلتها آنيًا، إن لزم الامر.

من تلك الأخطاء المألوفة، عدم معرفة اليسير عن الشخص الذي تتحدث إليه، مما يجعل حديثك معه في غاية الصعوبة. مقاطعة المتحدث واحتكار المحادثة لشخصك دون غيرك، من الأخطاء الشائعة أيضا والتي تمنع الآخر من فرصة التألق واللمعان. تغيير موضوع الحديث بشكل عشوائي وقرار فردي، هي خطأ فادح آخر، يقع فيه البعض ليتناسب ورغباتهم النرجسية، مما يعطي انطباعًا سلبيًا للآخر عن هؤلاء الأفراد وأن همهم لا يتعدى إرضاء أنفسهم لا غير. الأخطاء كثيرة وتعدادها قد يستغرق الكثير من الوقت، لكن في هذه العجالة سأستعرض خطئًا أخر قبل أن أختم. قد يلحظ أكثركم هذه الظاهرة من بعض المتحدثين عندما يأخذوا دورهم وأدوار غيرهم في الحديث ويسترسلوا إلى ما لا نهاية، وكأنهم العارفون بخبايا كل شيء، فيدلون بما تختزنه أوعيتهم العقلية وفي شتى المواضيع والتخصصات، ودون أن يفسحوا المجال للآخرين للمشاركة، أو بإعطائهم فرصة يتفوهوا من خلالها ولو بالقليل اليسير من القول، عسى أن يكونوا خيرًا منهم رأيًا ومعرفةً ومنطقا.

الجميع على دراية بالمتحدث الذي يقاطع الجميع ليوصل فكرته، أو ذلك الذي يصر على قول الخطأ وهو يدرك أنه بذلك يتسبب في إحراج أخ له هنا أو صديق هناك، أو من يسأل أسئلة فجة ووقحة يهدف من ورائها وضع الآخرين في مواقف حرجة لا تليق بمقامهم، وأخيرًا وليس آخرًا ذلك الذي لا يسمح لأحد بأن يأخذ دوره الطبيعي في الحديث، لأنه يريد أن يتقلد دور المايسترو ويحتكر الحديث لنفسه، ولو كان هذا الشخص في واقع الأمر لا يحسن إدارة ذاته. قد يتصرف هذا الفرد من تلقاء نواياه الحسنة تجاه الجميع، إلا أن الآخرين لا يطّلعون على النوايا بقدر ما يعقلون أن هذه التصرفات في حد ذاتها خرقاء، استفزازية، ومثيرة للأعصاب. بعد هذا الإستعراض التوضيحي، ألا يدفعنا الهاجس المعرفي والإستطلاعي من أن نكون في طليعة الباحثين عن خفايا وأسرار ألف باء آداب الحديث، لنضمن أن تكون أفعالنا مطابقة لنوايانا، ودون تقصير في مشهد أو مبالغة في مشهد آخر..؟