آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 9:16 ص

الفكر والكسل الفكري

الشيخ زكي الميلاد * مجلة الفيصل - العددان 511 - 512

في سنة 1935م نشر الفيلسوف والرياضي الإنجليزي برتراند رسل «1872 - 1970م» مقالة لافتة بعنوان: «في مدح الكسل»، مؤرخا بها موقفا فكريا مدافعا عن الكسل الذي لا يخلو عنده من فضيلة، قالبا صورته النمطية المرذولة، وكاشفا عن الجانب الحسن اللامرئي عند عموم الناس، ومتخذا منه مفهوما نقديا لنظام العمل الصارم في المجتمعات الحديثة.

وبجدية تامة حسب قوله، يرى رسل أن العالم الحديث يصيبه الكثير من الأذى نتيجة الاعتقاد بفضيلة العمل، في حين أن السبيل إلى السعادة والرفاهية ينحصر في نظره في الإقلال المنظم للعمل، مقترحا تخفيض ساعات العمل اليومية إلى حدود أربع ساعات، ومعتبرا أن الفراغ ضرورة للحضارة، ويمكن عن طريق وسائل العلم الحديث توزيع الفراغ توزيعا عادلا من دون إضرار بالحضارة.

وقد بدا لي أن رسل كان بصدد مدح الفراغ والمطالبة به وليس مدح الكسل، لأنه لم يكن ضد العمل وإنما ضد المبالغة في العمل، وتحويل يوم الإنسان لأن يصبح كله عملا، كما لو أنه مجرد آلة تمضي الوقت كله في العمل، وما إن يفرغ من العمل بعد يوم طويل يجد نفسه لا يستطيع القيام بأي شيء آخر من شدة التعب، وبعد استنزاف طاقته.

أما الكسل فلا علاقة له بتخفيف طاقة العمل أو تخفيض ساعاته، وإنما هو آفة تصيب الإنسان وتؤثر سلبا على العمل وإنتاجيته، والدعوة إلى تقليل ساعات العمل لا يناسبها مدح الكسل، بل يناسبها مدح ما هو مضاد للكسل.

ومن وجه آخر، لا أدري لماذا غاب عن رسل الاقتراب أو الالتفات إلى عمل سابق عليه هو في صميم موضوعه، ونعني به كتاب «الحق في الكسل» للكاتب والناقد والطبيب الفرنسي بول لافارج «1842 - 1911م»، الصادر سنة 1880م، والذي قد يكون أول عمل يحمل هذا العنوان في تاريخ الأدب الإنساني الحديث.

لا أعلم إن كان رسل ملتفتا لهذا الكتاب وتغافل عنه قاصدا، أم إنه لم يكن على دراية به، لكن غيابه أحدث نقصا مؤثرا من جهة انقطاع التراكم المعرفي، علما أن لافارج عرف بهذا الكتاب، كما عرف بوصفه زوجا لابنة كارل ماركس فيلسوف الماركسية.

على خلاف هذا النسق من الأدب المادح للكسل، وبعيدا من الجانب الرتيب في تناول هذا الموضوع، سنلج له من جهة علاقته بالفكر، فهناك كسل يتصل بالفكر والمجال الفكري، يجوز أن يصطلح عليه بالكسل الفكري، أي أن الفكر لم يسلم من هذا العارض، ولن يكون محصنا منه، وسيظل حاضرا في دائرته، مذكرا بهذا النمط من الكسل، ومعرفا به.

وعند النظر في هذا النمط من الكسل الفكري، يمكن الحديث عن جانبين: جانب عام يتصل بالفكر من خارجه، وجانب خاص يتصل بالفكر من داخله. الجانب العام يصدق على شريحة كبيرة من الناس الذين يعرفون بالنشاط في أعمالهم ووظائفهم وما يزاولونه من مناشط أخرى في حياتهم العامة، لكنهم لا يعرفون بهذا النشاط في علاقتهم بالفكر، ويصفون حالتهم في هذا الجانب بالكسل.

فهناك أناس يتحملون النشاط اليدوي لساعات طويلة، ويصبرون على تعبه ومشقته، لكنهم لا يتحملون وقتا قصيرا في مطالعة كتاب، ولا يستطيعون إلزام أنفسهم بوقت يخصص للقراءة، فإنهم سرعان ما يشعرون بالملل الذي يصل حد الضيق، وهكذا الحال في بقية المناشط الأخرى التي لها علاقة بالفكر، فهؤلاء الناس لا يظهر عليهم الكسل إلا من جهة علاقتهم بالفكر، وهذا ما يعرفه هؤلاء عن أنفسهم، ومنهم من يجاهرون بلا حرج في الحديث عنه أحيانا.

أما الجانب الخاص الذي يتصل بالفكر من داخله، فيصدق على أولئك الذين يعرفون بأهل الفكر المشتغلين به كسبا وعطاء، فهؤلاء معرضون للإصابة بالكسل في علاقتهم بالفكر، وهناك العديد من الوقائع والحالات الدالة على مثل هذه الإصابات التي يعرفها المشتغلون بهذا الحقل إما عن أنفسهم وإما عن غيرهم، سواء من الحاضرين أو من السابقين، الموصوفة عندهم بالكسل الفكري أو غير الموصوفة، لكنها الدالة عليه فعلا وحقيقة.

وما نعنيه بالكسل الفكري لا يصدق على الحالات الطارئة أو العارضة أو القصيرة الأجل، كالحالات التي تحصل في نطاق اليوم الواحد، أو التي تمتد لأيام عدة أو لفترة وجيزة ثم ترتفع، فهذه الحالات حصلت وتحصل للجميع تقريبا، وما من أحد على ما أظن إلا وشعر بمثل هذه الحالات، وهناك من تحدث عنها بلسان لقد أصابني الكسل في هذا اليوم أو في هذه الأيام أو خلال هذه المدة الوجيزة، ويجري الحديث عنها بوصفها تمثل كسلا طارئا أو عارضا أو قصيرا.

وإنما يصدق الكسل الفكري حين يستمر مدة لا تعد قصيرة، ويحصل التكيف معه، والتطبع به، بشكل يترك تأثيرا واضحا، ويكون الحال مفارقا بين ما قبل الكسل وما بعده، ويظهر متجليا في تراجع وتيرة النشاط وانخفاض فاعليته وإنتاجيته، التراجع الذي يحصل بصورة تدريجية وبطيئة، قد لا تكون محسوسة، إلى أن تصل لحد وتستمر بهذا الحال، وتنكشف موصوفة بالكسل الفكري.

والكسل الفكري له صور وتجليات عدة، من هذه الصور حالة الاعتياد على المطالعات الفكرية السهلة التي لا تستوجب جهدا ذهنيا، ولا تستلزم صبرا فكريا، ولا يترتب عليها تعب علمي، فهناك أناس ينتمون إلى الوسط الفكري لا طاقة لهم على تحمل مطالعة المؤلفات الجادة والصعبة، ويتهربون منها تهربا من بذل مزيد من الجهد، بدلا من الصبر عليها وتحمل المشقة الذهنية طلبا للفهم، واجتهادا في تحصيل المعرفة.

ومن هذه الصور أيضا، ما يحصل أحيانا من أشخاص ينغمسون في المطالعة، ويبذلون جهدا واضحا، ويستغرقون وقتا طويلا، ويعرفون بالنشاط في هذا الجانب، لكن ما إن يقتربون من الكتابة والتأليف حتى تتغير حالهم، ويأفل نشاطهم، وتتراخى عزيمتهم، وكأن لا طاقة لهم على تحمل وضعية الكتابة التي بحاجة إلى صبر وتحمل يفوق ما يحصل مع وضعية المطالعة.

وهذا الكسل يمكن وصفه بالكسل الجزئي، لأنه يتعلق بجانب ويرتفع في جانب آخر، يتعلق بجانب الكتابة، ويرتفع في جانب المطالعة، وطالما تعجبت من أشخاص يطالعون كثيرا ولا يكتبون إلا نادرا، كما تعجبت من أشخاص ينتمون إلى السلك الفكري والعلمي ولا سيرة لهم في الكتابة، ولا إرث لهم في التأليف والنشر، أليس من الكسل أن يكون الشخص عالما أو أديبا لكن من دون أثر علمي أو أدبي مدوّن يعرف به.

ومن هذه الصور كذلك، ما يتعلق بالابتكار الفكري، فلا ينبغي للمشتغلين بالفكر والثقافة والأدب أن يمضوا عمرا طويلا في هذا الاشتغال مطالعة وبحثا وتنقيبا وتحقيقا، من دون التوصل إلى ابتكارات على مستوى المفاهيم والأفكار والمصطلحات والنظريات والمناهج، ابتكارات تسجل لهم، وتكشف عن تميزهم، وتبرهن على اجتهادهم، فالابتكار بحاجة إلى اجتهاد، وأما الكسل فلا ينتج ابتكارا، كما أن الكسل لا يبني عالما كبيرا، ولا مفكرا بارزا، ولا أديبا بارعا، ولا كاتبا موهوبا، ولا فيلسوفا عظيما.

كاتب وباحث سعودي «القطيف»