آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

شهر العافية: 10 - طغيان اللاشعور «أ»

محمد حسين آل هويدي *

بسم الله الرحمن الرحيم - سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ «2» َالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ «3»... - صدق الله العظيم - الأعلى.

قبل فترة قرأتُ كتاب ”خوارق اللاشعور“ للدكتور علي الوردي. الكتاب بصفة عامة جيد ولكنه لا يرقى أن يكون في مستوى الوردي؛ المتألق عادة. يستحق القراءة ولا يقتضي التصديق. الوردي تكلم عن قوة اللاشعور، وهذا أمر لا خلاف فيه. ولكنه صدّق بوجود خوارق، وهذا أمر يستطيع العلم أن يفضح زيفه اليوم، ولا مجال لنقاش الموضوع هنا. من يرد أن يصدق فعلى رسله ولا نجبره، ولكن البشر لا يمتلكون خوارق، ومن المستحيل أن يهب الله أعداءه قوى خارقة حينما يمنعها عن عباده الربانيين. ولا بأس نقتبس من كتاب الوردي ذاته حينما قال: ”إن من البلاهة إذاً أن نحاول إقناع غيرنا على رأي من الآراء بنفس البراهين التي نقنع بها أنفسنا. يجدر بنا أن نغيّر وجهة إطاره الفكري أولاً وإذ ذاك نجده قد مال إلى الأصغاء إلى براهيننا بشكل يدعو إلى العجب الشديد“. وإن من أصعب الأمور إقناع الآخرين حيث لا يوجد من هم أكثر حجة وإقناعا ودليلا وتسديدا من الأنبياء. ولكن أكثر أقوامهم عاندوهم وحاربوهم. والحالة النفسية للأولين لا تختلف كثيرا عنها في كل عصر، بما فيها هذا العصر حيث يبقى الناس أعداء ما جهلوا؛ معاندين للعلم، مصدقين للخرافات.

كيف نتخذ قراراتنا؟ هل نَزِنُ كلَّ المعطيات بطريقة موضوعية لنحصل على أفضل إجابة؟ كم نسبة تدخلنا في اختياراتنا؛ حتى الشخصية منها؟ هل الاختيار شعوري أو لا شعوري؟

قد نظن أن اختياراتنا شعورية، ولكن في الواقع، تأثير اللاشعور عليها أكبر مما نتصور، وذلك لأن اللاشعور يستحوذ على ما يفوق 95% من الدماغ حيث يترك فقط 5% أو أقل للشعور والذي قد يخطئ في أحيان كثيرة.

على مر الأزمان، حاول الإنسان معرفة العقل وباطنه من خلال الفلاسفة وغيرهم. على سبيل المثال، قال إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر إن العقل لا يستقبل واقع موضوعي ولكنه يصنع الواقع الذي يناسبه. في القرن العشرين، سيگموند فرويد طرح فكرة العقل الباطني «اللاشعوري» ومنها أصبحت رائجة ومقبولة. قال فرويد إن اللاشعور عادة غير طبيعي وتعتريه المرض بسبب الذكريات المريرة أو كبح الرغبات الجنسية حتى مع المحارم. هذه النظرة القاتمة لم تسترعِ البحث الدقيق لأن مصداقية النظرية على المحك، خصوصا لو اطلعنا على الواقع فلا نجد إلا حالات نادرة لسفاح المحارم «incest».

ليس من السهولة فك ألغاز اللاشعور، والكثير من العلماء يرجحون أن الإنسان مجرد حيوان معقد ولكن يمكن التنبؤ بما يفعل كونه يحمل دماغا مثل الحاسوب. مع بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، ظهرت تقنيات جديدة تساعد في مراقبة حركة الدماغ، ومن ثم تحليل النتائج بصورة منقطعة النظير. أجهزة الرنين المغناطيسي «fMRI» تستطيع أن ترسم الدماغ بشكل ثلاثي الأبعاد مع مراقبة تدفق الدم ونشاطات الخلايا العصبية ومقدار استهلاكها للأكسجين «الخلية النشطة بحاجة إلى وقود يساعد الأكسجين في احتراقه». الأجهزة وضحت مسارات الدم والنبضات، ومنها ساعدت في إعطاء كل عضو في الدماغ دوره.

الدماغ يتكون من ثلاث طبقات؛ المخيخ المسؤول عن التنفس والغذاء والاحتياجات البدائية ليحيا الكائن، وهذا مشترك مع الزواحف التي لا تملك غيره. الجهاز الحوفي يتلو المخيخ وهو موجود في كل الثدييات، بما فيها الإنسان، ويختزن الكثير من اللاشعور الذي يثير العاطفة تجاه الصغار والحرص على رعايتهم. فوق هذه تأتي القشرة المخية الحديثة الذي يكثر عند الرئيسيات وللإنسان منها حصة الأسد، وهي التي تساعد في صنع الهدف والسعي لتحقيقه، وهذا يتعلق بالشعور. وهذه الطبقة تحمل أيضا مكامن لاشعورية مثل تحريك الأصابع والحركات الوجهية ونقل الصورة للمكامن البصرية في الدماغ.

لضخامته وأهميته، لن نستطيع تغطية اللاشعور في مقال قصير، ولذلك سينزل على شكل حلقات لإعطائه حقه. في الأسفل، موضوعات سابقة؛ قراءتُها ستساعد في الإلمام بهذا الموضوع بشكل أوسع.

http://www.simplifyinginterfaces.com/2008/08/01/95-percent-of-brain-activity-is-beyond-our-conscious-awareness/

1. Leonard Mlodinow «2012». Subliminal: How Your Unconscious Mind Rules Your Behavior. Vintage.

2. علي الوردي «1951». خوارق اللاشعور: أو أسرار الشخصية الناجحة. الطبعة الخامسة؛ الوراق 2017م.
سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل