آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 3:39 م

عودة لأسباب فشل عصر التنوير العربي

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

قبل عدة أسابيع، نشرنا مقالة حملت عنوان خواطر حول عصري الأنوار والتنوير، وقد تضمنت المقالة محاولة للإجابة عن أسباب عدم تسرب مبادئ عصر الأنوار الأوروبي للشرق، ومن ضمنه الوطن العربي. وكان ذلك في جوهره استعادة للسؤال المركزي الذي طرحه رواد النهضة العربية، لماذا نجح الغرب وفشلنا نحن؟.

أشرنا إلى أن أوضاع القارة الأوروبية، في المرحلة التي انطلق بها عصر الأنوار كانت في حال يرثى لها، ولذلك وجدت في عصر الأنوار رافعة، ووسيلة لخروجها من أزماتها. وكان تأسيس الدولة القومية، هو فاتحة الولوج في الثورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى التي شهدتها القارة.

في الوطن العربي، كان الفرق شاسعاً بين حالنا وحال الغرب، أثناء عصر الأنوار الأوروبي، فالبلدان العربية، كانت تحت الاحتلال العثماني، وبعد الحرب العالمية الأولى، سقطت تحت الاحتلال الغربي. لقد تمت إعاقة مشروع التقدم العربي، بالحضور الكولونيالي، في دورات متعاقبة.

وحين كتبنا حديثنا «الفكر قوة تاريخية»، تناولنا بشيء من التفصيل، التراكم التاريخي الفكري والأدبي، والإبداعي، الذي كان من أهم معالم عصر الأنوار الأوربي، وكان بمثابة مرحلة تبشير، بالنظم السياسية والهياكل الاجتماعية، المؤمل انبثاقها في المستقبل.. بمعنى أن التحولات الاجتماعية والسياسية في القارة الأوربية، نحو الحداثة، لم تنشأ من فراغ، بل استندت إلى تراث هائل من الفكر بكل تجلياته، كما استندت إلى اكتشافات علمية واسعة.

في الوطن العربي، عانت النخب الفكرية التي اضطلعت بقيادة حركة التنوير العربي، من عدة إعاقات. فهي أولاً افتقرت إلى التراكم الفكري التاريخي. وحين تأثرت بقوة بالتيارات الفكرية الكاسحة، الوافدة من الغرب، واعتبرتها بمثابة دليل عمل لها في حراكها نحو الانعتاق عن السلطنة العثمانية، لم تتمكن من توطين تلك الأفكار، ولا الإضافة عليها. ولذلك جاء فكرها في صيغة استنساخ، لأفكار غريبة، في الزمان والمكان عن الواقع المعيش، في مكان انطلاقها، وتحديداً بلاد الشام.

ومن جهة أخرى، كان هناك فراغ كبير، على الصعيدين، الأدبي والفني، وضحالة في الفكر السياسي. وذلك أمر بديهي، في ظل ضعف واضح في التشكيلات والهياكل الاجتماعية. وأيضاً بقاء التشكيلات البطركية القديمة حية.

لم تتغير الأحوال الاجتماعية للبلدان العربية، بسبب سقوط معظمها تحت سيطرة الاستبداد العثماني، ومن ثم الاستعمار الغربي التقليدي. ولم يكن في وارد الغرب نقل تجربته الحداثية إلى المناطق التي احتلها في آسيا وإفريقيا. فالهدف كان الاستيلاء على الثروات والمواد الخام، وما عدا ذلك لم يكن في حسبان الغزاة.

يضاف إلى ذلك، أن النخب الفكرية التي قادت عصر الأنوار، بقيت هي نفسها أسيرة تبعية مزدوجة، تركت آثارها قوية على بنيتها النفسية والفكرية. فهي أولاً أسيرة البنية البطركية التي أشرنا إليها، وكانت في تكويناتها التاريخية جزءاً من تلك البنية. وكان ذلك من أسباب فشل عصر التنوير، وبقاء الأمة أسيرة، واقعها الراكد والمتكلس.

أما معضلتها الأخرى، فكمنت في محاولتها المزاوجة بين الحفاظ على التراث القديم، من جهة، ومن جهة أخرى، القبول بلعب دور الوسيط مع القوى الكولونيالية، التي زحفت على بلاد الشام، مركز انطلاق عصر التنوير، والتي انتهت بنتائج كارثية، عبر عنها بشكل فاضح تقسيم المنطقة، وتوقيع اتفاق سايكس - بيكو بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وأيضاً بروز وعد بلفور الذي وعد بتشكيل وطن قومي لليهود في فلسطين، على حساب حقوق أهلها، ووجودهم.

وكان قبول النخب الفكرية بالانخراط في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب الحلفاء، للفكاك من السيطرة العثمانية، والذي كان تتويجاً لمراسلات مكثفة، مع المندوب السامي البريطاني في القاهرة، ماكماهون، هو أكبر دليل، على ارتباط هذه النخب، النفسي والفكري، وتبعيتها للغرب. وكانت صدمتها بنتائج الحرب العالمية الأولى الكارثية، هي الدليل القاطع على عجزها عن قراءة وتقديم تحليل صائب للأحداث الدائرة من حولها.

فيما بين الحربين، شهدت المنطقة العربية، محاولات للانعتاق والخلاص من الاحتلال، وتوجت في نهاية الحرب العالمية الثانية، بإنجاز الاستقلال السياسي. لكن معضلة غياب التراكم الفكري والسياسي والإبداع، وبقاء الهياكل الاجتماعية على ما هي عليه، قد جعل الإعاقة العربية شبه مستدامة، رغم تضحيات هائلة، هنا وهناك وتغيرات لم ترق إلى تجاوز القشور حتى هذه اللحظة.

نسوق على سبيل المثال، ما جرى ويجري في السودان الشقيق، هذا البلد الغني بثرواته وطيبة شعبه، وموقعه الاستراتيجي، شهد ثلاثة عهود من الحكم المدني، وثلاثة عهود من الحكم العسكري. وكان نصيب الحكم العسكري، من وقت الحكم هو أضعاف نصيب الحكم المدني. لكن هذه الحكومات مجتمعة، مدنية وعسكرية، لم تتمكن من مقابلة استحقاقات الشعب السوداني، مع الاعتراف بأن عهود الحكم المدني شهدت انفتاحاً أكثر وحريات أكبر.

ويعلم العارفون بتاريخ السودان، أن عوائل محدودة ستستأثر بالحكم، في حال تحوّل النظام من العسكرة إلى النظام المدني.

استياء شعبي من حكم عسكري، يليه حكم مدني، ما يلبث هو الآخر أن يقابل بغضب الجمهور، نتيجة فشله في تحقيق التنمية والتقدم، في دورات متكررة لا يبدو أن لها نهاية، ما لم تجرِ المعالجة في الجذور، وتلك هي المعضلة!