في اليوم العالمي للكتاب
يعد يوم 23 أبريل من كل عام تاريخ رمزي في عالم الأدب العالمي. ففي سنة 1995 قررت منظمة ”اليونسكو“ أن يكون هذا اليوم يوماً عالمياً للكتاب، تعبيراً عن تقديرها وتقدير العالم أجمع للكتاب والمؤلفين، وتشجيع الناس من مختلف دول العالم على القراءة، ونشر هذه العادة بين الجميع، وبشكل خاص بين الشباب، وتشجيع استكشاف المتعة من خلال القراءة، وتجديد الاحترام للمساهمات التي لا يمكن إلغاؤها لكل الذين مهدوا الطريق للتقدم الاجتماعي والثقافي لأبناء الإنسانية جمعاء.
وبهذه المناسبة نؤكد ما خلصنا إلية في المقالة السابقة إلى أهمية خلق البيئة المناسبة التي تزرع حب القراءة في نفوس الأبناء منذ سني التنشئة الأولى، كون ذلك ما سيحدد علاقتهم بالكتاب مدى الحياة. فالسعي للنهوض بمجتمعاتنا والرقي بها إلى مصاف الدول المتقدمة يتطلب الاهتمام بموضوع القراءة والمطالعة، وتربية الأبناء على عادة القراءة، وتعويدهم على الاهتمام بها منذ الصغر، وضرورة توعية الأجيال الناشئة بأهمية وقيمة وفائدة المعرفة التي تمتلئ بها الكتب، وما تحتوي عليه من معلومات ومعارف قيِّمة، كي تقدو الكتب والقراءة جزءاً لا يتجزأ من كيانهم وأسلوب حياتهم.
ويتفق أهل التربية على أهمية غرس حب القراءة في نفس الطِفل، وتربيته على حبها، حتى تصبح عادة له يمارسها ويستمتع بها. وما هذا إلا لمعرفتهم بأهمية القراءة وتأثيرها في نموه العقلي، وتطور وعيه، وبناء وتكوين شخصيته وصقلها. فقد أثبتت البحوث العلمية إن الاهتمام بموضوع القراءة منذ السنوات الأولى لحياة الطفل ستكون له انعكاساته الإيجابية على حياة الطفل مدى الحياة. ”فقد بين تقرير مؤتمر“ تطور الدماغ" في جامعة شيكاجو أن دماغ الطفل الرضيع لا يحدد ولا يقرر كيفية تطوره وراثياً أو جنينياً، وإنما من خلال التجارب المبكرة التي يكون لها الأثر الحاسم والفاصل في هذا التكوين.
وتبين تقنية تصوير الدماغ الحديثة أنه وحرفياً في خلال ثوان فقط من بداية قراءة كتاب لطفلك الصغير، تندفع آلاف من خلايا الدماغ للعمل، فبعض هذه الخلايا تنشط وتقوى، وأخرى جديدة تتكون لتغير من شكل الدماغ مدى الحياة. كل هذا فقط عندما تفتح كتاباً لطفلك لتقرأ، وهذه هي الفترة الخطيرة الحرجة الحاسمة الهامة في تغيير الدماغ، وتؤثر في حياة الإنسان مدى الحياة، بناء على بحث نشرته الهيئة الوطنية العلمية لدراسة تطور الطفل. أي أن جودة الشبكة العصبية التي تربط بين أجزاء الدماغ تتكون في هذه الفترة لتصبح دعائم القدرة المستقبلية على التعلم، وكذلك فهي توجه السلوك ومدى الصحة النفسية للإنسان مدى الحياة.
وقد بينت الدراسات الحديثة أن الطفل يُكوِّن 80% من قِيَمه وسلوكه وولائه وما يخافه ويخشاه في السنوات السبع الأولى من حياته لتبقى معه طوال ما تبقى من عمره، وبينت كذلك أن القراءة للمتعة تجعل الطفل أكثر فصاحة ووضوحاً، ولديه قدرة أعلى على الفهم والتفكير المنطقي.
كما أن القراءة للطفل في مرحلة الطفولة وما قبل المدرسة تبني علاقة وطيدة بين الطفل ووالديه، وتبني الثقة عند الطفل، وتبني الإحساس بالتعاطف والقدرة على التحليل والتركيز، كما تصبح القراءة عند الطفل شيئاً محبباً وليس مفروضاً، وتكون محببة أكثر من الألعاب الإلكترونية وأفلام الفيديو. كذلك بينت دراسات أن الأطفال الذين حُثوا على القراءة وقُرئ لهم في فترة ما قبل الدراسة حققوا تفوقاً أكاديمياً على نظرائهم استمر حتى المرحلة الجامعية، وهو كذلك يربي الحماسة والشغف، ويقوي الذاكرة وحسن الإنصات عند الطفل". «1»
إن تطوير المستوى الثقافي والفكري في مجتمعاتنا يتطلب الاهتمام بثقافة القراءة، وتنمية تقاليدها عند أبنائنا، وترسيخها في نفوسهم منذ الصغر، لتتحول فيهم إلى عادة راسخة تكبر معهم، وتنمو مع نموهم، كما هو حال بعض الشعوب المتقدمة حضارياً، والتي تقدر أوقاتها، وتستثمرها حتى في أماكن الانتظار بالقراءة، حيث تحولت فيها هذه العادة إلى نمط حياة، وسلوك يومي، ليس فقط عند الكبار منهم، بل أيضاً عند الصغار.
ويأتي موضوع الاهتمام بثقافة القراءة في ظل ما يسمى اليوم بعصر المعرفة مع التَّغيُرات المتسارعة في التكنولوجيا والابتكار، واكتساب المعلومات، وزيادة الاعتماد على المصادر الرقمية والملتميديا. فبالإضافة إلى الكتاب الورقي يتم استغلال وسائل التقنية الحديثة في التشجيع على ممارسة القراءة، والتدريب عليها، وتطوير مهاراتها وصقل قدراتها، وتنمية القدرات الذاتية للفرد، كي تبقى القراءة، مهما كانت الوسيلة، هي البوابة الرئيسة لدخول عالم المعرفة بأبعاده المترامية والمتجددة.
إلا أن ما يؤسف له حين يتم استخدام الابتكارات الجديدة، والأجهزة التكنولوجية المتقدمة، لغرض التسلية واللعب، ويتم تمضية الأوقات الطوال في مشاهدة أشرطة الفيديو، ومزاولة اللعب بأجهزة الهواتف النقالة، والأجهزة السطحية اللمسية، ومنصات الألعاب المحمولة، والكمبيوترات، وهو الأمر الذي نشاهده عند أبناء مجتمعاتنا، ليس فقط الصغار الذين هم في سن الطفولة، بل والكبار منهم أيضاً.