المؤسسة العسكرية والتغيير السياسي
تحولات دراماتيكية سياسية جرت خلال الأيام الأخيرة، في الجزائر والسودان وليبيا، حملت أجندات ومطالب مختلفة، لكن الجامع بينها هو التقاؤها حول مطلب تغيير الأنظمة السياسية القائمة. وفي كل هذه الأحداث تلعب الجيوش في هذه التحولات الدور الأساسي والحاسم.
في الجزائر أشعل الإعلان عن عزم الرئيس عبد العزيز بوتفليقه، ترشيحه لدورة رئاسية قادمة، الحركة الاحتجاجية. وتلخصت اعتراضات المحتجين، على إعادة الترشيح، في عجز المرشح بسبب أمراضه وشيخوخته عن الاضطلاع بمهام الرئاسة. ثم تطورت الأمور إلى اتهامات النظام بالفساد والعجز عن مقابلة استحقاقات الناس، في العمل والمساواة والعدل. وقد رفعت الحركة الاحتجاجية سقف مطالبها، إلى تغيير النظام، قيادات وبنية، وتأسيس دستور جديد، يلبي مطالب المحتجين. وقد طغت المطالبة بتأسيس نظام ديمقراطي.
أما في السودان، فإن تغيير الأوضاع الاقتصادية المتردية في هذا البلد، قد تربع مطالب المحتجين، الذين رأوا أن السبب الرئيسي لهذا التردي، هو فشل البرامج السياسية والاقتصادية، وتغول الفساد في عهد الرئيس عمر البشير. ومنذ الأيام الأولى للحركة الاحتجاجية كان مطلب تغيير النظام هو الشعار الأثير لدى المحتجين، نتيجة لفشل وعود التصحيح المتكررة السابقة التي أطلقتها الحكومة، وانخفاض دخول الأفراد بشكل مريع، حيث باتت عاجزة عن تلبية الحاجات الأساسية للسودانيين، مع ارتفاع كبير في نسبة الفقر. وبات مطلب التغيير لا يتعلق بإصلاح الأوضاع الاقتصادية، بل بنزع الشرعية عن النظام القائم، والمطالبة باستبداله، بنظام مدني، يعتمد مبدأ التعددية وتداول السلطة، والعلاقات التعاقدية. في ليبيا الوضع مختلف جداً، فمنذ أسقط نظام العقيد معمر القذافي في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011م، لم تقم لهذا البلد قائمة. وبات مرتعاً لميليشيات التطرف، بمختلف مسمياتها. وكان من نتائج ذلك تفتيت البلاد وانعدام الوحدة، والانفلات الأمني. ولا شك أن غياب القوات المسلحة، التي لم يكن تأسيسها والاهتمام بها، من أولويات النظام السابق، قد أسهم فيما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد العربي.
في ظل الفراغ الأمني، الذي عم المدن الليبية، بدأ اللواء المتقاعد خليفة حفتر، تحركه لتأسيس جيش وطني، فيما أطلق عليه بعملية الكرامة، هدفت كما جاء في البيان الذي أصدره إلى القضاء على الإرهاب، والعصابات والخارجين على القانون، والالتزام بالعملية الديمقراطية، ووقف الاغتيالات. وحظيت تلك العملية بتأييد عدد من المسؤولين في الحكومة الليبية، على رأسهم رئيس وزراء ليبيا السابق، على زيدان، ورئيس الحكومة السابق أيضا، عبدالله الثني. وقد ركزت عمليات حفتر على الميليشيات الإسلامية المتطرفة. وتمكن من السيطرة على معظم الأراضي في شرق البلاد.
في هذه الأيام، ومنذ الرابع من هذا الشهر، أبريل/ نيسان 2019م، بدأت قوات حفتر الزحف على العاصمة الليبية طرابلس، والهدف هو القضاء على معاقل الإخوان المسلمين، الذين يسيطرون على المدينة، ويشكلون حكومة تابعة لهم فيها. وإذا ما حسمت هذه المعركة لصالح الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر، فإن ذلك سيعني نهاية آخر مواقع الحكم للإخوان المسلمين، في الوطن العربي. كما سيعني اقتراب الشعب الليبي من استعادة وحدة أراضيه.
في الحالات الثلاث التي تعرضنا لها، تشكل جيوش هذه البلدان محور وجوهر التغيير السياسي، سواء كما تطمح الحركات الاحتجاجية لتحقيقه، كما هو الحال في الجزائر والسودان، أو بمبادرات عسكرية مباشرة، كما هو الحال مع ليبيا. وذلك أمر طبيعي، مع الواقع الاجتماعي السائد في بلدان العالم الثالث، ومن ضمنه الأقطار العربية. وأيضا بسبب التجريف السياسي، الذي مارسته الأنظمة العربية، عبر عقود طويلة.
إن معظم التغيرات السياسية التي حدثت بالوطن العربي، بعد معارك الاستقلال، قد قادها ضباط يافعون. بل إن الأوضاع في الجزائر تشكل حالة خاصة. فالجيش الجزائري القائم الآن، هو وريث ونتاج جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، التي قادت كفاح الشعب الجزائري للاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
اللافت للنظر أن الحركة الاحتجاجية التي تطالب بالتغيير، ترفع شعار الديمقراطية والمجتمع المدني، لكنها تعترف بعجزها عن تحقيق ذلك من غير مساندة الجيش. ويبدو أن ذلك أمر غير واقعي، إذ لا يتوقع من الجيش أن يقبل بدور المنفذ للمطالب الشعبية، دون تمكينه من مواصلة دوره في الحياة السياسية. وستظل المعضلة قائمة بين مطلب شعبي شرعي، ولكنه غير واقعي بابتعاد الجيش عن السياسة، وبين مطالبته للتدخل لحسم الصراع، إلى جانب الحركات الاحتجاجية.
إن التغيير في التركيبة الاجتماعية السائدة، هو رهن بتغيرات جوهرية في التقاليد السياسية العربية. ولن يتحقق ذلك إلا بتصليب دور مؤسسات المجتمع المدني، وفتح الأبواب مشرعة للعمل السياسي في تلك البلدان، وخلق مناخات تتيح الفرص لتحول ديمقراطي حقيقي. وما لم يتحقق ذلك سيظل الواقع كما هو.