آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

التنمية الثقافية كحصانة روحية وأخلاقية

ابراهيم الزاكي

خلصنا في المقالة السابقة إلى أهمية الإعلاء من شأن التنمية الثقافية في مجتمعاتنا إن أردنا تحصينها ضد أمراض الحياة الاستهلاكية ومشكلاتها. فالثقافة الجادة والرفيعة واحدة من العناصر المهمة التي تشكل السلوك الإنساني، وتؤدي دوراً رئيسياً في تشكيل البناء القيمي والاجتماعي والأخلاقي، وتوجه سلوك الفرد في المجتمع، وتمكنه من تكوين حصانة روحية، ومناعة أخلاقية ضد حياة البذخ وحمى الاستهلاك المرضي.

وزيادة على ذلك فإن التقدم الثقافي والمعرفي لأي مجتمع يُعد معياراً رئيسياً في الحكم على تقدمه أو تأخره، فلم يَعد ضعف الدخل أو امتلاك الثروات المادية هو معيار التقدم، بل إن المعرفة واكتسابها وإنتاجها هي شرط التنمية الإنسانية في العصر الراهن. فالمعرفة هي معيار الرقيّ الإنسانيّ، وكلما ازداد مستوى الإنتاج المعرفي ازداد مستوى الرقي الإنساني، وكلما تخلف المجتمع عن إنتاج المعرفة ونقصت قدرته على اكتسابها ازداد جهلاً وضعفاً، والدليل هو الفرق في مستوى التقدم الإنساني بين المجتمعات التي تملك المعرفة وتنتجها، وتلك التي لا تملكها، نتيجة هذه الفجوة المعرفية.

وحين يكون للمعرفة هذا الدور المهم في الرقي بالإنسان، وتنمية المجتمعات البشرية وتطورها، فإنه يجدر بنا الاهتمام بموضوع المعرفة واكتسابها، وبذل أقصى الجهد في تحصيلها والتزود بها، وصولاً إلى توظيفها بالشكل المناسب من أجل تجاوز حالة التخلف، والرقي بمجتمعاتنا. ”وإذا كان من الخصائص الثابتة للأشياء أنها تنقص بالاستعمال، فإنه من الخصائص الجوهرية للمعرفة أنها تنمو بالاستعمال. فليست المعرفة مجرد حدث الحصول على المعلومات، وإنما هي سلسلة من عمليات البحث والتنقيب والانتقاء والاستخلاص والمعالجة للوصول إلى معلومات مفيدة، يتبعها جهد مكثف من الاستخدام والتوظيف لتلك المعلومات، من أجل إنتاج معارف جديدة للمساهمة في نموّ الثروة المعرفيّة“. [1] 

والسؤال هل يمكن النهوض بواقع مجتمعاتنا من دون تنمية ثقافية وتطور معرفي؟

إن الثقافة والمعرفة التي نعنيها في هذا السياق تشمل كل ما له علاقة وصلة بالقراءة، والمطالعة، والكتابة، والبحث، والترجمة، والإبداع والتأليف في شتى المجالات المعرفية والعلمية والفكرية والفنية والأدبية، لأنه من الطبيعي أن ينعكس المستوى الثقافي لدى أبناء أي مجتمع على مسيرته وتطوره سلباً أو إيجاباً، فالمجتمعات التي يزداد وعي نخبها وشعوبها بأهمية المعرفة ودورها في النهوض والتنمية فإن ذلك سينعس حكماً وبشكل إيجابي على عملية ازدهار المجتمع وتطوره.

لقد ارتبط مفهوم الثقافة في بعض توصيفاته ودلالاته وتعريفاته بالفطنة والفهم والحذاقة والذكاء وسرعة الفهم وسرعة التعلم، كما أن التثقيف كان يعني في جوهره ومضمونه التقويم والتسوية وصقل النفس البشرية، فضلاً عن التأديب في معناه السلوكي والأخلاقي، حيث تقوم الثقافة والآداب والفنون بمهام تهذيب الفرد، وتنمية حصيلته الفكرية والمعرفية، وتطوير ذائقته الجمالية، حيث أن للثقافة وحقولها المتعددة والمتشعبة دور وتأثير مباشر، وغير مباشر، في الارتقاء بالإنسان وفكره، وتهذيب روحه وأخلاقه بما يمنع انحدار حياته الروحية.

إن كلمة ”ثقافة“ في الاستعمال العربي الحديث، كلمة مولَّدة، كما يشير إلى ذلك ”محمد عابد الجابري“، مضيفاً بأن كلمة culture «الفرنسية» تعني في الأصل الزراعة والفلاحة. وقد تطور مدلولها، ابتداء من القرن السادس عشر، لتفيد معنى مجازياً هو ”تنمية بعض القدرات العقلية بالتدريب والمران“، ثم لتدل بعد ذلك على ”مجموع المعارف المكتسبة التي تُمكن من تنمية روح النقد والقدرة على الحكم“.

لقد نُقلت الكلمة الفرنسية، حسب قول الجابري، من زراعة الأرض واستغلال خيراتها إلى تدريب الفكر وجني ثمراته، ومن ”نتاج الأرض“ إلى ”نتاج الفكر“. وسرعان ما وقع التأكيد على أن مدلولها في ميدان الفكر يجب أن ينصرف إلى فعل الإنتاج أكثر من الإلحاح على الإنتاج نفسه، بمعنى أن المقصود منها يجب أن يكون ما يكسبه العقل من قدرات على التفكير السليم والمحاكمة الصحيحة، بفضل المعارف التي يتلقاها، والتجارب التي يخوضها، لا ما يضمه الفكر بين طياته من معارف ومعلومات. لقد ألح كثير من الكتاب الفرنسيين منذ عهد النهضة على هذا المعنى، ويكفي أن نشير إلى تلك التفرقة الشهيرة التي أقامها مونتني Montaigne بين ما سماه ”الرؤوس المصنوعة جيداً“ وما أطلق عليه: ”الرؤوس المملوءة جداً“ مفضلاً الأولى على الثانية. ولعل الكثيرين منا سمعوا أيضاً بذلك التعريف الطريف الذي أعطاه المسيو Herriot لـ ”الثقافة“ حين قال: إنها ”ما يبقى لدينا بعد أن ننسى كل شيء“. [2] 

وعن نفس دلالات الكلمة بالمعنى الفكري يشير ”مصطفى حجازي“ إلى أن ”كلمة ثقافة تعني تنمية الملكات العقلية عند الفرد بالمران والتدريب الذهني. فعلى المستوى الفكري تعني كلمة ثقافة اكتساب المعارف التي تنمي الحس النقدي والذوق والحكم. كما قد تتخصص من خلال التعمق بالفلسفة والعلوم والآداب والمجالات الفكرية المختلفة. وهو ما يفتح سبيل التعامل مع قضايا الإنسانية والاجتماعية بدرجة متميزة من الاستيعاب والشمول“. [3] 

والثقافة لا تعني الدلالات والمعاني المعرفية والفكرية فقط، بل للمفهوم دلالاته الاجتماعية أيضاً فهي إلى ذلك تعني السلوك الفردي والمجتمعي وما يرتبط بهما من تقاليد وأعراف وأخلاق، فالثقافة هي ”ذلك المركب الكلي الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات وأي قدرات وخصال يكتسبها الإنسان نتيجة وجوده عضواً في مجتمع“. [4] 

خلاصة القول هي أن الثقافة قادرة على تغيير المفاهيم السلبية البالية المتخلفة التي يكتسبها الإنسان وتوجه سلوكه وعاداته وأخلاقه، كما هي قادرة على خلق منظومة قيم ومفاهيم جديدة مستنيرة، تغير نمط العادات السلبية السائدة، وتدفع الإنسان إلى النهوض والتغير، ومواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

لذا كان ضرورياً فتح فضاءات الثقافة وتنمية حقولها المتعددة كي تنغرس قيم الثقافة وتنتشر بما يساعد على إطلاق القدرات الكامنة لدى الإنسان، وتُحفِّزه على الإبداع بكل صوره، فضلاً عن ترسيخ كل القيم الجادة الرفيعة المحفزة على المعرفة والمبادرة والعمل والعطاء واحترام التفكير بما يسهم في غنى العقل والوجدان البشري ويدفعه نحو التقدم.

[1]  مجتمع المعرفة والتنمية المستدامة. سليم مصطفى بودبوس. صحيفة الوسط البحرينية. 30/10/2012

[2]  مفهوم الثقافة... وقاموس الخطاب العربي المعاصر. محمد عابد الجابري. جريدة الاتحاد الاماراتية. 03/12/2007

[3]  كتاب حصار الثقافة. مصطفى حجازي. الطبعة الاولى 1998 المركز الثقافي العربي.

[4]  مفهوم الثقافة... وقاموس الخطاب العربي المعاصر. محمد عابد الجابري. جريدة الاتحاد الاماراتية. 03/12/2007