الفكر قوة تاريخية
في مناقشاتنا لأسباب تعثر مشاريع النهضة العربية، التي بدأناها منذ عدة سنوات، حضرت باستمرار المقاربة، بين واقع أمتنا العاثر، والغرب الذي سطعت عليه شمس الحضارة، منذ عدة قرون. وكانت مناقشتنا في الحديث السابق، قد تناولت الأسباب التي جعلت عصر الأنوار غربياً بامتياز، وكيف أن ذلك العصر، غاب عن الجزء الشرقي من الكرة الأرضية.
واقع الحال، أن أية محاولة، لقراءة أسباب بزوغ عصر الأنوار، دون متابعة للتحولات الفكرية، التي شهدتها القارة الأوروبية، ستبقى منقوصة وزائفة. وذلك لأن التحولات السياسية والاقتصادية والثورات الاجتماعية التي شهدتها أوروبا هي في جزء كبير منها، تطبيق للأفكار التي بشرت بها مرحلة الرومانسية، وما تبعها من مخاض فكري وعلمي، وحركة إصلاح ديني، ومتغيرات طرحت أسئلة كبرى، حول يقينيات سادت لعهود طوال.
ورغم أن أحداً لا يستطيع أن يحدد بدقة، نهاية عصور الظلمة، وبداية عصر الأنوار في القارة الأوروبية، إلا أنه يمكن القول، إنه بفعل التراكم التاريخي، وإشعاعات الحضارة العربية في الأندلس، فإن أوروبا مع بداية القرن الثالث عشر، كانت تتململ في بطء، في محاولة للاستيقاظ من نوم عميق. فقد سجلت كتب التاريخ، أن الإمبراطور فريدريك الثاني، أقام سوقاً للأدب والعلم والفلسفة، في بلاطه قبل القرن الثالث عشر الميلادي. وأنه كان يدعو لهذه السوق، المشاهير من الفلاسفة العرب.
أسس فريدريك الثاني، مدرستين، إحداهما للعلوم في نابولي، والثانية، للطب في ساليرنو، ثم انبثق عن هاتين المدرستين، جامعة في باريس، جعلت من هذه المدينة، قبلة طلاب العلم، في أوروبا. انشق بعض الطلاب الإنجليز عن هذه الجامعة، وعادوا إلى بلادهم، وأسسوا جامعة خاصة بهم، هي جامعة أكسفورد الشهيرة.
في القرن الثالث عشر، شهدت أوروبا، تطورات ملحوظة في مجالي الأدب والفلسفة. وبرز الفيلسوف الإنجليزي روجرز بيكون، الذي أنكر العقيدة القائلة، إن الأشياء وجدت كما هي قائمة، موضحاً أن للظواهر الطبيعية أسباباً ينبغي التفتيش عنها، فاتّهم بالزندقة. وفي الحقبة ذاتها، نشر دانتي ملحمته الشهيرة، «الكوميديا الإلهية».
كما شهد القرن ذاته، قيام الرحالة، ابن مدينة البندقية ماركو بولو، برحلة حول الأرض بغية الوصول إلى الصين. وقد دامت تلك الرحلة عشرين عاماً، زار خلالها الصين ومنغوليا. وقد فتحت تلك الرحلة، المجال للتنافس على البحار، بين البرتغال وإسبانيا، في محاولات لاكتشاف أجزاء وثروات أخرى من هذا العالم. ففي عام 1492م، اتجه كريستوفر كولمبوس نحو الغرب، من أجل الوصول إلى الهند. ولكنه بدلاً عن ذلك، اكتشف أرضاً جديدة، هي القارة الأمريكية، محققاً في ذلك إنجازاً كبيراً، في تاريخ البشرية، أثر بشكل حاسم، في التطورات اللاحقة التي حدثت في أوروبا، وفي العالم أجمع.
وبعد ثمانية أعوام، كان رحالة آخر، هو فاسكو دي جاما، يتجه عام 1498م، للقيام بمغامرة اكتشاف أخرى، مدعوماً من حكومة البرتغال. وفي عام 1519م، كان مغامر آخر برتغالي، يتجه بدعم من حكومة إسبانيا، إلى أمريكا الجنوبية، فيصل إلى البرازيل، ومن ثم يكتشف أرخبيل الفلبين.
ومن جانب آخر، كانت القارة الأوروبية، تشهد حركة واسعة للإصلاح الديني، قادها راهب كاثوليكي، هو مارتن لوثر، الذي بلغ من جرأته، أن هاجم الكنيسة، في بيانه الذي أصدره عام 1517م، مصوراً رجالها على أنهم لصوص، داعياً إلى العودة إلى تعاليم المسيح الصادقة. وكان جون كالفن، يقود في فرنسا حركة مماثلة لحركة لوثر.
كما كان العالم الإيطالي غاليلو يؤكد من جديد نظرية كوبرنيكوس، في دوران الأرض حول الشمس، ويقدم على صنع أول منظار فلكي، فيتعرض للإرهاب من قبل المؤسسة اللاهوتية.
في عام 1777م، اخترع جيمس وات المحرك البخاري، فاستبدلت المراكب الشراعية، بالمراكب البخارية، فسهلت الأسفار والتجارة عبر البحار، وتحول العلم من الميدان الروحي، إلى الميدان العملي والصناعي.
وأثناء ذلك، كانت حركة فكرية واجتماعية واسعة تأخذ بالتشكل في فرنسا، حيث برز باسكال وديكارت، وهما فيلسوفان مثاليان، ربطا الوجود بالفكرة، فقد عرف عن ديكارت مقولته الشهيرة: «أنا أفكر إذاً أنا موجود». كما برز في الحقبة ذاتها فرانسيس بيكون، الذي أكد من جديد، أن الأشياء والظواهر الطبيعية، ليست ذات كينونة مقررة ومستقلة، بل ناتجة عن أشياء يجب البحث عنها.
وكانت الأوضاع الاجتماعية في معظم أرجاء القارة الأوروبية، تسير على قاعدة الحق الإلهي، ما دفع بمفكر مثل مونتيسكيو، إلى الاهتمام بالبحوث الحقوقية وإصدار كتاب «روح القانون»، الذي بات منذ صدوره مرجعاً مهماً في أصول التشريع. كما دفعت تلك الأوضاع، بمفكر آخر، هو جان جاك روسو، إلى إصدار كتاب «العقد الاجتماعي». وفي إنجلترا أصدر جون لوك، كتابه «اتفاقيتان» الذي رسم خريطة للحكم الرشيد.
وعلى صعيد الأدب برز فيكتور هوجو وفولتير، وكلاهما حرض على تغيير الواقع الاجتماعي، وقيام أشكال سياسية أكثر إنصافاً وعدلاً.
لقد أدت هذه المنجزات العلمية والسياسية والأدبية، إلى خلق مناخات، هيأت للثورات الاجتماعية، والتحولات السياسية اللاحقة التي شهدتها القارة الأوروبية. بمعنى آخر، إن القول بعصر الأنوار الأوروبي، هو في حقيقته، إعادة التذكير بالسجل الهائل من المنجزات العلمية والفكرية الهائلة، التي شهدتها القارة، منذ القرن الثالث عشر الميلادي. وكان من نتائجها اندلاع الثورة الصناعية الأولى، وتحول القارة الأوروبية، إلى مركز العالم. وإذا عرف السبب بطل العجب.
ولعل في هذه القراءة السريعة، يختصر الجواب، لماذا تقدم الغرب، وتأخرنا نحن؟