السيد المنير أنموذجا
القطيف اسم لامع في فضاء العلوم على مرٌ العصور، فإن شئت أن تعبٌر عنها بأنها ذات حضارة متجذرة، وضاربة في الأعماق فحق لك أن تعبٌر. فعمرها الذي يزيد عن سبعة آلاف سنة - حسب الأحافير التي تم التنقيب عنها - أكبر شاهد على أصالة وعمق تاريخي كبير.
وقد مرّت عليها شعوب وثقافات مختلفة؛ حتى ازدهرت في العصور الإسلامية. بدءاً من دخولها الإسلام طواعية وسلماً وهي المعروفة بأصولها التوحيدية السماوية، فكانت سباقة لقبول الدعوة التي صدع به نبينا الأعظم ﷺ؛ بل ثبتت - حتى بعد ارتحاله للرفيق الأعلى - على ولاية أمير المؤمنين ورفضت خلافة غيره.
وامتدت بها الأصالة والاهتمام بالعلم على جميع مستويات العلوم الدينية والإنسانية والطبيعية؛ حتى منحت باستحقاق وسام ”النجف الصغرى“؛ ولا زالت كذلك منتجة - رغم حنق البعض واستخفافهم بالمسمى - وليس بعيداً عن ذلك؛ فمن علمائها الأعلام العالم الورع والفقيه التقي الشيخ إبراهيم القطيفي؛ الذي تنقل بين حلة العراق والنجف حتى عد من أكابر علماء النجف الأشرف وكانت صولاته وجولاته العلمية مع معاصريه كالشيخ الكركي العاملي، دالة على تميزه ونبوغه؛ ويمكن الرجوع لها لمعرفة التفاصيل في محلها.
وكذا أسرة آل عبدالجبار التي أنجبت ثلة من الفقهاء والعلماء المبرٌزين الذين شاع صيتهم في الأوساط العلمية؛ من خلال مؤلفاتهم في المحافل العلمية حتى رجع إليهم الناس في التقليد من شيعة إيران.
ولم تقتصر النجف الصغرى على العلوم الدينية والإنسانية؛ فبين الفينة والأخرى نرى انتاجات علمية تبهر العالم بأسره وليس حصراً؛ فها هو ابن العائلة المتألق - وهو في عنفوان شبابه وما زال طالبا في أحدى الجامعات - يحصل على براءة اختراع يخدم الإنسانية بأكملها، ويجعل المؤسسات العلمية - كجائزة نوبل - تحتفي به وتكرّمه؛ بعرض براءته وحضور تكريم العلماء، وتقدم له وكالة ناسا كويكباً باسم العائلة تخليداً لذكره؛ على ما اكتشفه، آلا وهو عبدالجبار الحمود.
ولعل داعي عنونة هذا المقال ب ”السيد المنير أنموذجا“ هو اطلاعي على نشرة علمية صادرة باللغة الفارسية تتحدث عن حوزة قم العلمية، منذ التأسيس إلى العصر الحديث. حيث تطرقت لأبرز الأسماء اللامعة في قم المقدسة والمؤهلين لطرح مرجعيتهم في المستقبل. الاّ أنها لم تذكر من العرب إلا سماحة آية الله السيد منير الخباز القطيفي؛ وذلك لم يأت من فراغ؛ فالسيد المنير اسم لامع في عالم الدروس الحوزوية العليا ”الخارج“.
لذا ومن باب الاحتفاء والتقدير لعلمه، ومكانته؛ كان لزاماً أن نظهر عظمة ومكانة السيد في الأوساط الاجتماعية والعلمية، وإن كان سماحته غنيا عن التعريف، ومثلي من القاصرين لن يفيه حقه لكن كما يقال ”لا يسقط الميسور بالمعسور“.
وسيكون محاور الحديث عن سماحته من خلال أربعة محاور:
الأول: تحصيله العلمي.
الثاني: تميزه في درسه.
الثالث: إبداعه في الخطابة والكتابة.
الرابع: تتبعه وتواصله مع المحافل العلمية.
فسيدنا المبجل هو السيد منير بن السيد عدنان الخباز، القطيفي المولد، رجل دين وخطيبٌ ومفكرٌ وكاتبٌ من أفاضل علماء القطيف ولد سنة 1384 هـ . أما نسبه لأمه فجده الفقيه الحجة الشيخ فرج العمران قدس سره؛ الغني عن التعريف وخاله شيخ البلاد العلّامة الشيخ حسين آل عمران أمد الله في عمره.
حضر سيدنا المنير بعضاً من الدروس النظامية للمرحلة الإعدادية، لكنَّ الحنين للعلوم الدينية أخذه نحو النجف الأشرف وهو ابن الرابعة عشر من العمر، ليدرس المقدمات فيها، لكن سرعان ما حدث من الظروف التي تجعل البقاء في النجف عصيباً ليهاجر إلى عش آل بيت محمد ”قم المقدسة“. ولم يمكث إلا سنوات ينهي فيها المقدمات وجزءاً من السطوح، ثم يكرُّ عائداً إلى القطيف مرّة أخرى، ولمدة سنة معلماً ومحاضراً وخطيباً، وما إن يجد الفرصة مؤاتيه ليلتحق بدرس العلامة السيد جمال الخوئي، نجل سيد الطائفة، مجاوراً للسيدة زينب بسوريا.
وريثما استقر وضع النجف نوعاً ما ليحط ضيفاً سيدنا المنير عند جده أمير المؤمنين ؛ وليحضر دروس الخارج عند استاذ الفقهاء السيد الخوئي قدّس سرُّه، والشيخ مرتضى البروجردي قدّس سرّه.
ثم ما كان من الشهيد السعيد السيد حبيب حسينيان إلاّ أن يشير عليه بحضور درس مرجع الطائفة السيد السيستاني «دامت أيام بركاته»؛ وحيث أن درسه بالفارسية وهناك شيء من الصعوبة على سيدنا المنير حضور الدرس بغير العربية؛ فقد قبل السيد السيستاني تغيير درسه للغة العربية بشرط أن يكون السيد من أهل الاستيعاب والفهم؛ وفعلا عندما وجد لديه النبوغ والاستعداد والقابلية حوّل درسه للعربية.
ولعلها من المراحل المهمّة في صقل شخصية سيدنا المنير؛ حيث استفاد من تلك الفترة بذور التفكير في علم الأصول والقدرة على المقارنة بين المدارس الأصولية المختلفة، كما استفاد منه السعة والشمولية والاطلاع على العلوم الحديثة.
وعادت الظروف العسيرة على النجف؛ ليحل عند السيدة المعصومة مجاوراً لها وليحضر عند أبرز اساتذتها؛ كأمثال الشيخ الوحيد الخراساني دامت أيام بركاته، والشيخ التبريزي قدّس سره، والذي نهل منه العلوم التي لم تكن في الكتب، كما يقال، وحظي من الشيخ التبريزي العناية الخاصة؛ لما رأى فيه التوقد العلمي والاستعداد؛ فمنحه الساعات الطويلة والجلسات الخاصة حتى أدناه من مجلسه في الافتاء.
ولعل ما يميز السيد المنير أنه استثمر أوقاته حتى في أيام التعطيل ولم يقتصر على الدروس العامة فحضر عند المرجع السيد أبو القاسم الكوكبي قدّس سرّه، وغيره لينهل ما بين السطور.
ومن إبداعات ومعالم السيد المنير - على مستوى المؤلفات بقلمه السيّال - فقد صدرت له جملة من الكتب الرائدة في عدة مجالات مختلفة؛ ففي الثقافة العامة والتفسير والعقائد والدروس التخصصية ومن الذكر لا الحصر:
1 - الدين بين معطيات العلم وإثارات الإلحاد.
2 - قبس من أنوار الفاتحة.
3 - الذبح بالمكائن.
4 - على ضفاف سورة القدر.
5 - معالم المرجعية الرشيدة.
6 - فقه الحج.
7 - الحقيقة المهدوية.
8 - في ظلال دعاء الافتتاح.
9 - فروع العلم الاجمالي.
10 - الرافد في الأصول.
وغيرها من المؤلفات والمخطوطات التي تحتوي على مواد واطروحات ثرّة.
أما عن خطابته؛ فقد أصلَّ السيد مدرسة تنسب إليه في معالمها، وهي بحق تستحق الدراسة، كما أصبح لها روادها من الخطباء. ولا يزال الخطيب المفوّه والمحاضر العالم بفصاحة وبلاغة وقوة بيان ومنطق تخدمه ملكته الأدبية والشعرية.
وإن رمت التحدث عن بحثه الخارج فلا غرابة أن تسمع من أهل الفن الذين عدوه الأوحد على مستوى العالم العربي؛ وكذلك الدروس العربية بل قد يفوق الكثير في الدروس المطروحة باللغة الفارسية في قم المقدسة.
ولعل ما يميز الأستاذ في بحث الخارج أن يوفق بحضور ثلة نوعية متميزة من الطلبة وهو الحاصل عنده، وكون درسه المتميز والعميق؛ فقد جذب إليه مختلف الجاليات؛ كالخليجيين والعراقيين واللبنانيين والإيرانيين؛ وهو مؤشٌر عن العمق والأهمية والنوعية التي يطرحها من خلال دروسه؛ إذا ما علمنا أن حضور الدروس في الخارج عائد للطالب نفسه وبالطبع كلٌ يبحث عن الدرس الأكثر تميزاً وجاذبية.
والمتتبع لسيرة سيدنا المنير؛ يجد أنٌه يجمع بين مجموعة من المعارف الإنسانية المختلفة؛ بما يثري به المجتمع الإسلامي عامة والشيعي خاصة؛ فقد كانت ولا زالت مجالسه لا تخلو من جنبة علمية وفائدة فقهية أو عقائدية. فكان بحق ممن يقف أمام التيارات الفكرية المعاصرة في طرح الشبهات والرد عليها بالطرق العلمية واللغة المناسبة مع تفكير الشباب الذي راح ينبهر من المصطلحات التي يطرحها الحداثيون؛ لكن جهدهم غالباً ما يذهب هباءً بسبب ما يوجهه سيدنا من الرد المحكم على الاشكالات مفنداً لها بالطرق العلمية المعمّقة والطرح الواضح السلس.
ولا يكتفي السيد - حفظه الله - أن يعتمد على ما وجد في كتب التراث الديني والمعرفي الكبير؛ فتراه من حين لآخر يحضر في المحافل العلمية والجامعات في الغرب وأمريكا معرّفا بمذهب الحق وما عليه من ضبابية وسوء فهم، مع بيان سعة المذهب من استيعاب للكثير من الإشكالات وابراز النظريات العلمية التي يتبناها المذهب وهو نوع من نشر ثقافة التشيع الحقيقي في العالم الغربي.
ولا تقتصر زياراته للغرب وأمريكا على اللقاء بالشباب المغترب من العالم الإسلامي؛ وإن كانت لوحدها لها ثمرات كبيرة، إلا أننا نجده يتنقل في لقاءاته مع اساتذة الجامعات والدراسات العلمية. ففي جامعة ويتشيتا كان له لقاء مع أساتذتها، وأخرى بعميد الدارسات الإسلامية بجامعة جورج واشنطن، وأخرى مع أساقفة مؤتمر الولايات المتحدة للأساقفة الكاثوليك، بل اصبح محاضراً في مركز «SAIS» بجامعة جونز هايكنز، وهذه غيض من فيض.
وقد يطول بنا المقام لذكر المشاركات؛ ولعل المتتبع سيجد الإشادات من تلك الجهات؛ رغم عالميتها ومكانتها العلمية المرموقة وهو ما ينبئ عن عظم ومكانة سيدنا المنير.
كل ذلك جعل لزاماً أن يكون سيدنا المنير أنموذجاً يحتذي به طالب العلوم الدينية ويستنير بهداه.
وقد رمت الاختصار؛ حتى لا يطول المقام. وبعد هذا وذاك فليس من الغريب أن تشير المجلاّت العلمية الصادرة بقم عن أهليته لأن يكون أحد مراجع الطائفة في العالم الإسلامي، سائلاً الله أن يبلغنا ذلك اليوم وهو ليس ببعيد.