آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 6:00 ص

واحة الرامس.. نداء ورجاء

عبد الله الدبيسي

حتى منتصف القرن الماضي كانت القطيف واحة فريدة في تنوعها وجمالها الطبيعي.. البر والبحر والنخل بيئات ثلاث شكلت بجمالها العذري ملامح الطبيعة والمكان. ثم وفي برهة من الزمن تسارعت خطوات التصحير وانتهى المشهد الى ما انتهى إليه اليوم.

من المقصر؟ من المتسبب؟ ايا كانت الإجابة فان الخسارة جسيمة وسنأتي على ذكر شيء منها لأخذ العبرة مما حصل.

قبل اربعين عاما نشرت تحقيقا صحفيا في جريدة اليوم بعنوان ”القطيف الطبيعية تطلق نداء آخر“ وقفت خلاله مع المصور على أعمال دفن البحر والعشرات من شاحنات الرمل «قبل جلب الحفارات» وهي تفرغ حمولاتها من تلك الرمال النظيفة لتطمس بها معالم الطبيعة وتضاعف الخسارة في البر والبحر معا.

خلال ذلك النشاط المحموم الذي استمر سنوات لردم البحر تم دفن معظم المساحة بين مدينة القطيف وجزيرة تاروت بما فيها من شواطئ بكر ومصائد لعشرات الصيادين واختفى مشهد أخاذ لجزيرة يحتضنها الماء على مسافة اميال من مدينة القطيف.

وتواصل الدفن وجاء الدور على شاطئ الرامس.. نعم شاطئ الرامس الشهير.. والله ما ذكرته الا مقترنا بآلام الحسرة. لذلك لا بد ان أفرد له مساحة من الحديث وان طالت.

كان شاطئا بكرا وسهلا غنيا بالأحياء التي تتشكل منها سلسلة الغذاء للأسماك وكان يتدرج نزولا على مسافة تمتد مئات الأمتار دون عوائق من حفر او اخاديد لينتهي الى مساحات تغطيها اشجار القرم وتمثل بدورها غذاء وملاذا لطيور البحر والأسماك. وما زاد من فرادة وجمال هذا الشاطئ معانقته لخضرة الزروع في ارض الرامس بدون فاصل وعلى مسافة تمتد شمالا - جنوبا نحو ثلاثة آلاف متر ”تصوروا كيف كان جمال المشهد“

هذا الشاطئ المعروف بطيب اسماكه كان كذلك مصدر الرزق الدائم للصياد البسيط اذ يقدم قوته اليومي ويؤمن حاجته من الصيد اليدوي عبر وسائله الفردية دون ان يركب البحر.. هكذا كنا نرى الصيادين في ذهابهم وايابهم لتحصيل رزقهم.. فكم كانت قيمة هذا وكم هي الخسارة بفقده؟!!

اما كشاطئ للنزهة فقد اصبح قبل دفنه بسنوات مطلب العوائل وموقعها المفضل ليس لقربه اوجماله فقط بل لسهولة حركة الأطفال على رماله والتدرج الآمن في نزولهم الى الماء.

نعم.. هذا هو الشاطئ الذي سماه العقاريون بعد الدفن ”مخطط دانة الرامس“ لاصطياد المشاعر وبيعه على اهل المكان بتلك الأسعار. وما اقوله هنا هو ان الدانة الحقيقية طمست والخسارة لا تعوض وستبقى خطيئة الدفن ما بقي المكان.

هذا مختصر ما حصل لبيئة البر والبحر ولم اذكر شيئا عن بيئة النخل وسأتجاوزها مضطرا بهدف الإختصار الى حيث الغاية في الحديث عن ارض الرامس فكل ما تقدم غايته فهم ما حصل للطبيعة ومصادر الرزق في القطيف لعل ذلك يشفع في إعادة النظر حول قرار ازالة حقول الرامس.

اننا نعيش الآن مرحلة تبعث بطبيعتها على التفاؤل وتعتمد الرؤية والتخطيط. والأمل كبير في تجاوز مثل تلك الأخطاء التي لا تحسب قطعا على هذه المرحلة. وابدأ بالسؤال: هل بات الحديث متأخرا في المطالبة بوقف القرار؟ والإجابة الحاسمة هي أن الدولة إن ارادت ذلك فالأمر سهل جدا ولن تصبح مسألة ما صرف من تعويضات للزروع عصية على الحل كما ان الموضوع بطبيعته ليس عصيا على المراجعة والتصويب.

واعتذر شخصيا إن قيل لم تأخرت في طرق الموضوع؟ فالله يعلم بالعذر. وليس من السهل ترك موضوع كهذا وان تأخر. ومثلما تجسدت تلك الخسارة بيئيا في ساحل الرامس جراء دفنه وتجسدت اجتماعيا في خسارة الصياد البسيط لمصدر رزقه فإن عشرات الأسر سيفقد اربابها مسعاهم اليومي ان تم تصحير واحة الرامس. انها من مصادر الرزق التي تتقدم في الأهمية والإعتبار حتى مع تنوع الإقتصاد كونها مصادر محلية دائمة عدا ما يتركه التصحير على البيئة من اضرار.

وفي البحث عن سبب يدعو الى إزالة منطقة واسعة من الحقول ولها حصانتها الوقفية عدا عن قيمتها البيئية والتنموية لا نرى سببا او موضوعا يستعصي على الحل. اما اذا كان الهدف تنمويا فليس هناك ما يعوض خسارة واحة قائمة بزروعها.

كيف نعوض آلاف النخيل والأشجار المثمرة ومعظمها من صغار الغراس عمرا وفي اول مراحل العطاء؟ ان منطقة الرامس لم تعد للزروع الموسمية فقط. لقد طور اصحاب الحقول من تجاربهم وتنويع زروعهم والإكثار من النخيل والشجر وكذلك تربية الحيوانات والطيور واصبح المكان واحة ظليلة وسط هذا التصحير الذي ضرب المنطقة وقضى على هويتها الريفية.

والسؤال الملح الذي يفرضه الواقع: كيف يمكن ان يحدث هذا التصادم الواضح مع رؤية البلاد الطموحة 2030 وما اكدت عليه من عناوين تنموية وبيئية وإنسانية؟! فهذه العناوين نجدها واقعا قائما ومتجسدا في واحة الرامس. ألا يشفع هذا كله في بقاء الواحة؟

ان الرامس بُنية زراعية عظيمة توفر الأرض للفلاح والغطاء النباتي للمكان ولا يمكن تعويضها بأي بديل. وأجزم بان هذا هو ما سيذهب اليه التقييم - لو تم - من خلال اي وزارة او هيئة رسمية معنية بالشأن البيئي والتنموي. لهذا كله وبعظيم الرجاء نأمل ان يصل نداؤنا الى مشاعر القيادة الكريمة بان تبقى ارض الرامس كما هي واحة خضراء ويبقى عطاؤها الدائم للبيئة والإنسان.