خواطر حول عصري الأنوار والتنوير
هذا الحديث هو مجموعة عن خواطر وملاحظات متناثرة، يجمعها سؤال واحد هو لماذا كان عصر الأنوار غربياً بامتياز، ولماذا لم تتسرب مبكراً مبادئه وهياكله الفكرية والسياسية والاقتصادية إلى الشرق، ومن ضمنه الوطن العربي؟
حين نتكلم عن الشرق، فإننا نتكلم عن منطقة خصبة بالحضارات والأفكار، منذ القدم. وقد شيدت إمبراطوريات كبرى. نتحدث عن الصين والهند وروسيا واليابان، وتركيا والوطن العربي، والقارة الإفريقية. وبعض هذه المناطق كانت، ولا تزال تمثل قلب العالم، وشريان حياته. ولم تكن هذه المناطق معزولة عن أسئلة التقدم والتغيير. كما أنها لم تكن في حينه مقطوعة عن الأحداث الصاخبة التي ارتبطت بعصر الأنوار، والثورات الاجتماعية التي شهدتها القارة الأوروبية، وبشكل خاص في فرنسا وانجلترا. لكنها مع ذلك، لم تتفاعل معها، ولم تتبن المبادئ التي ارتبطت بعصر الأنوار، لا بصيغة الاستنساخ ولا الخلق.
لماذا اكتشف الغرب وأسهم في خلق عصر الأنوار، ولم يتمدد ذلك العصر للشرق، سؤال نسوقه، ليس من باب الرياضة الذهنية. إنه يمس جوهر حاضرنا، ويعيد طرح السؤال المركزي، لدى مفكري عصر التنوير العربي: لماذا سطعت على الغرب شمس الحضارة، من كل صوب، وبين حال العرب الذي لا يزال غارقاً في نوم طويل. لماذا تقدم الغرب وفشلنا نحن؟
تواجهنا عند محاولة الإجابة عن السؤال المركزي الذي تصدر هذا الحديث، مجموعة من الوقائع، هي أقرب إلى الطلاسم، وتطرح الحاجة إلى المزيد من القراءات والتفكيك.
في قراءاتي الأخيرة عن السلطنة العثمانية، في أوج قوتها وعظمتها، اتضح أن أوروبا الغربية، في حينه، كانت تمور بحراك فكري وسياسي وأدبي، يتحلق حول موضوع الحداثة. وكانت المرحلة الرومانسية التي هيأت للثورات الاجتماعية الكبرى التي شهدتها القارة الأوروبية.
لم تكن السلطنة العثمانية، مقطوعة عن تلك الأحداث، بل إن كتب التاريخ توضح أن السلطان سليمان القانوني، كان يتابع مخاض عصر الأنوار الأوروبي عن كثب. وتذكر كتب التاريخ أن الصدر الأعظم إبراهيم برجي، الإغريقي الأصل، قد أهدى السلطان سليمان كتاب الأمير لميكافيلي.
هنا يمكن لنا أن نجد تفسيراً يشرح لنا أسباب عدم تمدد عصر الأنوار ليشمل السلطنة العثمانية، وممتلكاتها. ففي حينه باتت تركيا سيدة العالم. وكان أسطولها البحري يجوب البحر الأبيض المتوسط، في كل اتجاه. وكانت من أكبر الإمبراطوريات مساحة في التاريخ. يضاف إلى ذلك أنها اعتبرت قوة سياسية واقتصادية لا يستهان بها في تلك الحقبة.
أما أوضاع القارة الأوروبية، في حينه، فكانت بحال يرثى لها. كانت القارة موزعة إلى إمارات، وممالك صغرى. وقد وجدت في عصر الأنوار ملجأ للخروج من أزماتها المستعصية، ورافعة لتأسيس الدولة القومية، كمقدمة لبناء الدولة التعاقدية الحديثة، والدخول في عصر الثورة الصناعية، وبالتالي الخروج من إسار الدولة القومية، إلى مرحلة الاستعمار.
لم تكن تركيا، في أوج قوة السلطنة العثمانية، بحاجة إلى رافعة لتحقيق نهضتها. فقد كانت القوة العالمية الأولى، من غير منازع.
وكان الجيش الانكشاري الذي يمثل القوة الضاربة للسلطنة مشغولاً بالحروب، شرقاً وغرباً. بل إنه شكل قوة ضغط مستمرة على السلاطين، لاستمرار حروب التوسع العثماني في القارات القديمة الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا. لقد كانت مكاسب تلك الحروب، مصدر البحبوحة والرخاء والعيش الرغيد.
يؤكد ذلك، أن الأفكار التي بشر بها عصر الأنوار الأوروبي بدأت بالتغلغل لاحقاً في ممتلكات الدولة العثمانية، وبشكل خاص في بلدان البلقان، ولاحقاً في الوطن العربي، مع بروز عصر التنوير، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأت أفكار عصر التنوير بالتسلل إلى قلب السلطنة العثمانية، ذاتها.
وحين تم الإجهاز على السلطنة، من قبل البريطانيين والفرنسيين، كواحد من أهم نتائج الحرب العالمية الأولى، كانت الظروف مهيأة في تركيا للانتقال مباشرة نحو الحداثة، واستنساخ المشروع الغربي، جملة وتفصيلاً على يد كمال أتاتورك. لقد وجد الأتراك في هذا الفكر، رافعة لهم لتكنيس مخلفات الضعف والوهن، وإرث السلطنة العثمانية، كما وجد الغرب من قبل في عصر الأنوار رافعة له للخروج من أزمته، والدخول في الحداثة وبناء الدولة القومية.
في الوطن العربي، كان الفرق شاسعاً بين حالنا وحال الغرب أثناء عصر الأنوار الأوروبي، فالبلدان العربية كانت تحت الاحتلال العثماني، وبعد الحرب، سقطت تحت الاحتلالين، البريطاني والفرنسي، وكانت إيطاليا تحتل ليبيا، وإسبانيا تحتل أجزاء من المغرب. لقد تمت إعاقة مشروع التقدم العربي، بالحضور الكولونيالي، في دورات متعاقبة.