كيف نُحصِّن مجتمعاتنا من أمراض الحياة الاستهلاكية؟
اقتناء منتجات الحضارة الحديثة لم يعد محصوراً في الفئات الغنية والميسورة، بل يمكن اليوم لمختلف الفئات والشرائح الاجتماعية شرائها واقتنائها. فها هي اليوم متوفرة في الأسواق المحلية بشكل يفوق حاجة السوق. وهو الأمر الذي أسهم ضمن أمور أخرى في رفع مستوى النزعة الاستهلاكية، خصوصاً مع انتشار المولات، أو الأسواق التجارية الضخمة، والتي زادت من حمى الشراء بين الناس.
لقد ساهمت عائدات الثروة النفطية في حدوث تغيرات شتى في الأنماط الاستهلاكية لدى كثير من الناس، وأزداد ميلهم نحو الاستهلاك الترفي، وأمتد هذا الميل ليشمل كافة الطبقات الاجتماعية. ونتيجة شيوع الثقافة الاستهلاكية، والإقبال الكبير على الاستهلاك، تحولت دول الخليج إلى قبلة لكثير من الشركات التجارية بمختلف أنواعها. فمنطقة الخليج تعتبر المثال الأكثر وضوحاً على انتشار القيم الاستهلاكية حسب قول منصور القطري، "فقد أفرز انتشار القيم الاستهلاكية جيلاً لا يستطيع التحكم بسلوكياته المعيشية، بحيث تورط العديد من الشباب والعائلات في العيش بأسلوب لا يتناسب مع دخلها الشهري، فلجأت شريحة عريضة من الناس إلى البطاقات الائتمانية والقروض المصرفية.
والأمر لم يتوقف عند قيم الاستهلاك، بل إن هذه الشركات عملت على خلط فكرة الترفيه بعملية التسوق. فالناس عندما تذهب إلى المجمعات لا تدري هل هي ذاهبة للاستجمام والتنزه أم للشراء والتبضع. الناس في ظل السكرة الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية ليس مطلوباً منها أن تذهب إلى المسرح، أو السينما، أو معرض الكتاب، أو أمسية موسيقية راقية، أو ملتقى فن تشكيلي، لأن الإنسان في ظل هذه الثقافة قد تحوّل مترنِّحاً إلى كائن أعجمي يجيد عادة التسوق والأكل في المطاعم.
إن تنشئة الجيل على حب الاستهلاك وربطهم بمنتجات معينة يجعل منهم لقمة سائغة مستقرها بطن الشركات عابرة القارات، لذا يجب علينا أن نذهب مباشرة إلى تحصين المواطن ضد وحشية الثقافة الاستهلاكية لرفع درجة وعيه، فيتحصن بمناعته الذاتية وكذلك قناعته بأهمية دور الوالدين في الأسرة العربية". «1»
لقد تحول السلوك الاستهلاكي تدريجياً إلى ثقافة عامة، وسلوك جمعي، يشمل كافة الطبقات الاجتماعية. فالشركات المصنعة في العالم تعمل على ابتكار وسائل أكثر ترغيباً، وأعظم تأثيراً، وأقوى قدرة على التأثير في نمط تفكير البشر، واختراق عقولهم، بهدف تصنيع ثقافة استهلاكية قابلة للتعميم والانتشار، فضلاً عن تعميم وتنويع أنماط السلع لتشمل كافة الأذواق، بهدف نشر ثقافة الاستهلاك، متخذة أساليب مدروسة ومخططة، ووسائل تقنية فائقة الدقة ترغب في الشراء والاقتناء، وتنمي الحالة الاستهلاكية بين البشر.
إن تنامي الحالة الاستهلاكية، وهوس اقتناء منتجات التقنية الحديثة، والجري خلف آخر المكتشفات والاختراعات وموديلات الأجهزة الالكترونية بشكل محموم لهو ظاهرة مرضية وحمى استهلاكية تعيشها مجتمعاتنا، وهي إن دلت على شيء فإنما "تدل على انعدام الثقافة الروحية، أو انعدام الروح المثقفة، مما يدفع المرء للاعتقاد بأن كل ما أنتجته البشرية من ثقافة في وادٍ، وميل الناس الكبير للانخراط في عالم استهلاكي طاحن في وادٍ آخر. إضافة طبعاً إلى قائمة طويلة من الظواهر الأخرى تجعلنا نشكك أحياناً بالمدى الذي حققه المنتج الثقافي من قدرة على النفاذ إلى الروح الإنسانية.
وما هو أكثر بؤساً من ذلك تنامي البيئات الطاردة للثقافة، حيث عمّمت وسائل الاتصال الحديثة، وتحديداً التلفاز، صيغاً جديدة للثقافة، لكنها صيغ قاصرة عن تجذير الثقافة كسلوك، وراحت المعلومة تكتسب أهمية تفوق أهمية التحليل والاستنتاج في حياة الناس، وبات الكثيرون يمتلكون كماً هائلاً من المعلومات، لكنهم لا يملكون أدوات تحليلها، أي أدوات الذكاء القادر على التعاطي مع المعلومة من منطق علاقتها بتطوير الحياة، والارتقاء بالروح الإنسانية". «2»
علاوة على ذلك فقد أضحت وسائل التقنية الحديثة تلعب اليوم دوراً أساسياً في تشكيل وعي الفرد في مجتمعاتنا، فالطوفان الإعلامي والمعلوماتي الحالي له تأثيراً بالغاً في هيكلة ثقافة الفرد، كما يقول خليفة راشد الشعالي، ”حيث المتاح من الممنوع والمباح في فضاء الكون يغزو فضاءنا الخاص ويخترقه دونما إذن أو استئذان، ولم يعد من الممكن حجبه، لهذا فهو رافد من روافد ثقافتنا شئنا أم أبينا، وبه تتشكل عقولنا وعقول نسائنا وأطفالنا وقلوبهم، ومن خلال ذلك يتم قولبة أخلاقنا وقيمنا التي ينبع منها سلوكنا وتصرفاتنا، فالبرامج الثقافية الرصينة والمؤتمرات العالمية والندوات والمحاضرات الهادفة مثلها مثل الأفلام والأغاني الهابطة، ”والتغريدات”السطحية، والرسائل النصية المتواضعة، والإشاعات التي ينقلها الهاتف النقال بالصوت والصورة والنص، كل ذلك متاح مثل الهواء، وقابل للتداول عبر الأثير، وصار الفرد مسخراً للوسائل الناقلة مثلما هي مسخرة لخدمته“.«3»
والسؤال ما هو تأثير النزعة الاستهلاكية في تشكيل ثقافة مجتمعاتنا؟ وكيف يمكن مواجهة تحديات هذه النزعة؟ وكيف يمكن الحد من انتشار ثقافة الاستهلاك في ظل عالم يدعم ثقافة الاستهلاك ويعممها على كافة الشرائح الاجتماعية؟ وهل يمكن التحكم في تسارع انتشار تلك الثقافة في زمن السماوات المفتوحة وتكنولوجيا الاتصال؟
وبصرف النظر عما يمكن أن تكون عليه إجابة كل منا، إلا أنه يتراءى لي ضمن هذا المنظور أهمية الإعلاء من شأن التنمية الثقافية في مجتمعاتنا إن أردنا تحصينها ضد أمراض الحياة الاستهلاكية ومشكلاتها، فالثقافة الجادة والرفيعة واحدة من العناصر المهمة التي تشكل السلوك الإنساني، وتؤدي دوراً رئيسياً في تشكيل البناء القيمي والاجتماعي والأخلاقي، وتوجه سلوك الفرد في المجتمع، وتمكنه من تكوين حصانة روحية، ومناعة أخلاقية ضد حياة البذخ وحمى الاستهلاك المرضي.