الغياب أشد من الموت
ثقافة التعامل مع كبار السن والمرضى والعجزة
الخوف الذي يُحيط بنا دائماً ونحن ننتظر حدوث أمرا مجهولا، ندرك أنه مُر ولكننا أيضا نعلم بأن النهاية ستطرق الباب حتماً وستكون للأسف فاجعة.
في غياب أحد ما واختفائه من أسرته ومجتمعه ننتظر ونترقب وقد يعيش ذويه في حالة خوف وفزع وكذلك يعيش المجتمع معهم في حالة قلق وترقب وانتظار وتأمل لما قد سيجيئهم، وللأسف لا تبشر النتائج السابقة بخير، فالأيام تبدو كفيصل للحسم في كثير من قصص الغياب والاختفاء التي أتت لسبب مرض أو عجز واصابة بالزهايمر أو جاءت بشعة كجريمة موجهة وغير مسئول عنها أو معروف مرتكبها، فتقيد ضد مجهول.
غياب كبار السن واختفاء المرضى والعجزة حالة باتت تشغلنا جميعا لأنها ظاهرة تتنامى في أوساطنا والأسباب كثيرة، ذلك لأن قضايا بعض كبار السن والعجزة ومعاناتهم تحمل الكثير من المآسي فليس من سمع كمن عاش وخاض في عمق التفاصيل
كبار السن والعجزة والمرضى هم مسئولية الأسرة أولا وقبل كل شيء، هذه المسئولية مفروضة من النواحي الدينية والاجتماعية والعرفية والاخلاقية، لكن التطبيق لهذه المسئولية لدى الناس في المجتمع يبدو سيء جدا فلا يوجد تدريب فعلي لهم على استخدام وسائل التقنية الحديثة والتواصل الاجتماعي، حتى يبعدوهم عن الاكتئاب أو حوادث الزهايمر التي تحيء بفقد التركيز والقدرة على العودة للمنزل، كوجود أسورة أو بطاقة تعريف بالمريض وحالته وأرقام التواصل تضعها الأسرة كجهاز تتبع يعرف عن تحركاته في حال الضياع والفقد لا قدر الله، ويكونوا بذلك وفروا الكثير من الحزن والألم، في حصول قصص ومآسي كثيرة لن يربح فيها أحد، ولن تُختتم نهاية صاحبها بأن يموت وحيدا في طروف مأساوية ومفجعة.. ككثرة مثل هذه الحالات في الآونة الأخيرة.
جهاز تتبع للحركة كأسورة او بطاقة تعريفية تدل من يصادفه على أسرته، لن يكلف العائلة شيئا لكنه قد يكون حالة إحياء ونجاة من الموت المأساوي الذي لا أحد سيرتضيه لنفسه مستقبلا.
عملت لسنوات في برنامج الطب المنزلي وحاضرت عدة مرات حول أوضاعهم المعيشية والنفسية والصحية وفي عدة محافل ومؤتمرات وعلى عدة أصعدة، وبالاشتراك كذلك مع عدة جمعيات خيرية ولجان ومهرجانات وأنشطة ثقافية وطلابية ومدرسية عديدة، لأجل اثارة حالة الوعي حول التعامل معهم، والأفضلية التي يمكن توفيرها لهم، وكان يقودني لذلك فكرة التأسيس لتشيخ صحي وحقيقي فاعل في المجتمع، وللأسف وجدت أننا نفتقر وجدا لوجود برامج الرعاية الصحية والنفسية المناسبة لهم، أو حتى وجود النوادي الرياضية والتي هي شبه معدمة كما أن فكرة التأسيس لنوادي الأصدقاء والعلاج الجمعي كذلك لدينا هي صفر، ولا أحد بموقع مسئولية عمل على تبنيها أو التأسيس لها، ومن خلال تجربتي الفردية مع هذه الفئات وجدت أنها أكبر استثمار صحي وحقيقي لأجل تأخير الشيخوخة ومقاومة العجز والاحباط والمرض والاكتئاب، وحتى التخفيف من الزهايمر الذي هو داء هذه الفئة وعدوها الأكبر، فلا شيء للأسف سوى دار الإيواء البارد والمصير المجهول والمعتم ومن ثم الغياب من الذاكرة حتى وقت الرحيل الذي يوقظنا بعد فوات الأوان..
لسنا نلوم أحد، فإذا أول شخص ما الأمور على غير وجهتها وحلل آخر الحدث، وقلق الباقين، فليس هذا فقط من باب الفضول أو الاستباق المرحلي، لأن المؤشرات تجيء وفق غير ما نرجوها، لكن الامر صار قضية حقيقية شاغلة للمجتمع بكل اطيافه، ولهذا أيضا تتشكل لجان عدة، وتخرج الفرق التطوعية والبحثية، وتبدأ وسائل التواصل الاجتماعي تعلن حالة الاستنفار القصوى، لأجل المساهمة في العثور على بصيص أمل يستحضر حالة الغياب الذي لا يُعرف مآله.. فلعله يفلح في أن يطمئن العائلة والناس على مصير الغائبين..
وبالأخير يُعثر على الضحية بعد أيام.. لكنها للأسف قد تكون فارقت الحياة في صمت وهلع وظروف عصيبة ومأساوية غالبا عاشتها وحدها، ولا أحد يعرف كيف مرت الأمور عليها بانتظار المنقذ الذي لم يجيئها أو جاءها متأخرا جدا بعد أن سلمت الروح لبارئها..
وكان بالإمكان استدراك الامر فعليا بوجود رفيق ومتابع، أو بطاقة تعريف أو اسوارة تتبع للغياب، والأهم شيء من الاهتمام وحقن المجتمع بالمزيد من البرامج الخاصة بهم، والمختصة بثقافة التعامل مع هذه الحالات، التي فقدت أهلية السيطرة على ذاكرتها، وقدرتها على العودة للمنزل بسلام.