هوس الشراء
لم يعد اغتناء منتجات الحضارة الحديثة اليوم محصوراً في الفئات الغنية والميسورة فقط، حين لم يكن في الامكان شرائها، بسبب نذرتها وغلاء أسعارها، بل أصبحت بعض هذه التكنولوجيا رخيصة الأسعار نسبياً، ومتوفرة في الأسواق المحلية بشكل يفوق حاجة السوق، ومنتشرة بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وسهلة الاستخدام، حيث أصبحت دول منطقة الخليج في صدارة الدول الاستهلاكية، والسوق الرائجة لتصريف منتجات الشركات المصنعة.
فما أن ينزل إلى الأسواق منتج جديد إلا ويصبح في نفس اللحظة في متناول الأيدي، ويتحول بعد بضعة أيام إلى بضاعة قديمة منتهية الصلاحية نتيجة نزول منتج آخر جديد يتصف بمواصفات أحدث في تقنياته. فالبعض لديه هوس شراء الجديد، ومتابعة أحدث الأجهزة التكنولوجية الحديثة، وملاحقة كل ما تنتجه الشركات المصنعة، من دون الالتفات إلى المصاريف المالية الكبيرة التي يمكن أن يتكبّدها. فهؤلاء همَّهُم الأول ملاحقة آخر صيحات الموضة، ومواكبة أحدث التكنولوجيات مهما غلا الثمن.
ويندرج في هذا السياق هوس اغتناء أحدث تقنيات الاتصال الحديثة، وبشكل يزيد عن الحاجة إليها، وبما ينعكس على الوضع المادي للمشتري، على الرغم من أن المنتجات الجديدة قد لا تختلف عن المنتجات السابقة لها بشكل كبير إلا في الشكل والمظهر الخارجي، ويمكن أن يعطي النتيجة ذاتها. غير أن المبالغة في استبدال القديم واغتناء الجديد ما هو إلا حالة إسراف وبذخ، وقد تكون لأسباب مظهرية واستعراضية ووجاهية.
لقد أمسى هوس اغتناء أحدث التقنيات وكأنه ظاهرة مرضية في بلدان منطقة الخليج، على حد قول الكاتب حسن مدن، مسمياً هذه الظاهرة "بسيكولوجيا البذخ، فأسواق بلدان المنطقة تعج بآخر المكتشفات والاختراعات والأجهزة الالكترونية. وصنمية السلعة تتبدى في هذه المنطقة أكثر مما تتبدى في أي بلد عربي أو منطقة عربية أخرى. ويبدو أن أعين المنتجين معقودة على أسواق هذه البلدان بسبب معرفتهم الجيدة بحمى الاستهلاك والمظاهر الاستعراضية التي تخترق عصب المجتمع.
ويشير مدن إلى أن المستهلك الخليجي دائماً ما يعمل على تغيير واستبدال مغتنياته، حيث يجري استبدال هذه السلع، خاصة تلك التي تتعلق بالمظاهر، أو الوجاهة الخارجية، كل بضع سنوات، وأحياناً كل سنة، ويتجلى ذلك في العلاقة مع سلع كالسيارات، أو أجهزة التلفاز، أو أجهزة الهاتف المحمول، جرياً وراء آخر موديل.
وحتى الآن ثمة خلط في التعاطي مع قضية التكنولوجيا لا ينجو منه الكثيرون كما يشرح مدن. فالسائد أنها مجرد مسألة تقنية، فنية، عملية، محايدة، ليست سيئة وليست بالضرورة جيدة، وأن الأمر يتعلق بالطريقة التي تستخدم بها هذه التكنولوجيا ولأية أغراض، لكن إذا ما تجاوزنا حقيقة أن هذه التقنية هي نتاج تطور مديد لمجتمعات أخرى، فإننا لا نستطيع الموافقة على حياديتها. التكنولوجيا إذ تدخل مجتمعاً فإنها تغيره، إما ببطء أو بسرعة تبعاً لملابسات هذا الدخول. فهي قد تكون حافزاً للتطور باكتساب شروط هذا التطور عبر تملك هذه التكنولوجيا، معرفةً واستخداماً وإنتاجاً، وقد تكون باعثاً على الترهل والاستلاب والانغماس في لذة المظاهر بتحويل السلعة إلى صنم جديد يلاحقنا في صحونا والمنام، ويبدو أن هذه هي الآفة التي تقع فيها مجتمعات الخليج". «1»
ينبغي القول بأنه ليس من الخطأ أن يغتني المرء أحدث منتجات التقنية الحديثة إذا كانت تخدمه في تيسير أمور حياته وتطويرها. لكن المشكلة حين يبالغ البعض في اغتناء أحدث التقنيات وأغلاها ثمناً بشكل دوري، وبشكل لا لزوم له، أو هم يغيرون مقتنياتهم الشخصية باستمرار إلى درجة الإدمان من دون استثمارها الاستثمار الصحيح والمفيد، وهو الأمر الذي يجعلهم ينفقون مبالغ أكبر من ميزانياتهم المحدودة، ويستنزفون مواردهم ومدخراتهم من دون أي عائد يذكر، ومن ثم ترتفع الأصوات بالشكوى من الغلاء وضيق اليد، حيث ينتهي بهم المطاف إلى الاستدانة، ومن ثم تكبيل أنفسهم بالقروض الاستهلاكية، والديون المرهقة، على حساب مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.