مستقبل العلاقات الأمريكية - الكورية الشمالية
في أواخر فبراير الماضي، التقى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب والزعيم الكوري، كيم جونج أون في العاصمة الفيتنامية، هانوي على أمل التوصل إلى نزع للسلاح النووي الكوري. ويأتي هذا اللقاء بعد اجتماع أول عقد بين الزعيمين في العام الماضي في سنغافورة.
اجتماع هانوي، انتهى إلى الفشل وقرر الرئيس الأمريكي العودة إلى بلاده، بسبب ما دعاه برفض الكوري نزع السلاح النووي قبل رفع الحصار الأمريكي عن بلاده. وهو ما رفضه الرئيس ترامب، واعتبره تعنتاً من قبل كوريا الشمالية.
وكانت وسائل إعلام أمريكية قد ذهبت بعيداً في تفاؤلها بنتائج المفاوضات، حتى قبل بدايتها، بسبب التصريحات المتكررة للرئيس ترامب التي أعلن فيها نهاية العداء لكوريا الشمالية، وبداية تأسيس صداقة قوية مع القائد الكوري كيم إيل جونج. وقد بلغ الاستغراق في التفاؤل، حد مقاربة ما سوف يحدث من تطور في العلاقات الأمريكية - الكورية الشمالية، بما جرى قبل أكثر من عقدين من الزمن، من تطبيع للعلاقات بين الولايات المتحدة وجمهورية فيتنام الديمقراطية.
ورغم أن ما جرى في هانوي، يأتي في سياق تاريخي، مغاير ومختلف، من حيث توقيته، وأيضاً من حيث الاختلاف في موازين القوى الدولية، وتأثيراتها المباشرة، في عملية التطبيع التي يتطلع إليها صنّاع القرار في أمريكا، فإن التفاؤل بتحقيق ذلك، كان سيد الموقف بالنسبة للأمريكيين.
مقاربة ما جرى من تطبيع أمريكي مع فيتنام، بعد حرب ضروس بين البلدين، كانت واحدة من أهم معالم أحداث القرن العشرين، مع الرغبة الأمريكية، في نزع السلاح النووي الكوري الشمالي، والتلويح برفع الحصار الأمريكي الكامل عن كوريا وتقديم مئات المليارات لدعم اقتصادها، والمضي في تطبيع العلاقات بين البلدين، يفتقر للحنكة والحصافة، والقراءة الموضوعية، واختلاف الظروف بين الحالتين.
صحيح أن فيتنام خاضت حرباً ضروساً، ضد التدخل الأمريكي في أراضيها. لكن تلك الحرب أخذت مكانها أثناء احتدام الحرب الباردة، بين القطبين الرئيسيين في العالم آنذاك: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وقد توسعت تلك الحرب لاحقاً، لتشمل كمبوديا ولاوس. وانتهت بهزيمة سياسية وعسكرية ساحقة للولايات المتحدة في الهند الصينية.
تواصل العداء بين البلدين، أمريكا وفيتنام، استمراراً للحرب الباردة الدائرة آنذاك، والتي عكست ذاتها، على العلاقات الدولية، على مستوى العالم بأسره. ولم يتغير واقع الحال، إلا بعد سقوط حائط برلين، وسقوط الكتلة الاشتراكية، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وسقوطه الدراماتيكي، في أوائل التسعينات من القرن الماضي.
في شهر يوليو/ تموز عام 1995 كان بداية التطبيع بين أمريكا وفيتنام، وذلك بعد خمس سنوات، من التحولات العالمية، والتغيرات الحاسمة في موازين القوى الدولية، وتربع الولايات المتحدة كقطب أوحد على عرش الهيمنة في العالم. وعلى هذا الأساس، فإن تطبيع العلاقات بين أمريكا وفيتنام، جاء في ظل فراغ في الشرق عسكرياً وسياسياً.
فروسيا الاتحادية كانت تنوء بثقل أزماتها السياسية والاقتصادية، ولم يكن بمقدورها لعب أي دور سياسي على مستوى العالم بأسره. والصين الشعبية، كانت منعزلة ومنهمكة بانطلاقتها الاقتصادية العتيدة. ولم تكن في وارد التدخل في أي شيء يشغلها عن مشروعها الاقتصادي الضخم. خاصة وأن الولايات المتحدة باتت هي الشريك الرئيسي الذي يستوعب 25 في المئة من صادرات الصين إلى العالم. وفي هذه الحالة، فإن الدخول في أي صراع مع الولايات المتحدة، سيمثل طعنة قوية للمشروع الصيني الاقتصادي الطموح.
أما الوضع العالمي الآن فمختلف تماماً، من نواح كثيرة. فروسيا الاتحادية برزت كقوة رئيسية عالمية، يحسب حسابها في صناعة القرارات الدولية. والصين كانت دائماً تنظر إلى كوريا الشمالية، كحديقة خلفية، لم تتخل عنها مطلقاً حتى إبان انشغالها ببناء قوتها الاقتصادية، ولن يكون مقبولاً تصور إمكانية تخليها عن تحالفها مع الزعيم الكوري لصالح سياسات الرئيس الأمريكي ترامب.
يدرك الزعيم الكوري الشمالي هذه الحقائق، ويتصرف على ضوئها. والمنطقي بالنسبة له هو أن لا يضحي بحليف موثوق، ساند بلاده منذ الحرب الكورية، حتى هذا التاريخ، مقابل حليف محتمل، لا تسجل علاقته مع بلاده سوى التهديدات المستمرة بالحرب. كما يرقب القائد الكوري الشمالي، عن كثب التغيرات في موازين القوى الدولية، لغير صالح القطب الأوحد.
إن العالم يتجه بثبات، وإن يكن ببطء نحو عالم متعدد الأقطاب، بما يفرض بناء تحالفات واستقطابات دولية جديدة، تعكس التغيرات في موازين القوى. وليس منطقياً بالنسبة لكوريا، أن تضحي بتحالفات قوية وراسخة مقابل تحالفات محتملة غير مضمونة.
ستستمر لعبة المفاوضات الأمريكية - الكورية الشمالية، دون تحقيق أي نتيجة تستحق الذكر، وستصر كوريا الشمالية على الاحتفاظ بترسانتها النووية، فهي ضمانتها الرئيسية للدفاع عن سيادتها واستقلالها، ومنع أي هجوم عسكري أمريكي ضدها. وستظل إلى مدى غير منظور حليفاً استراتيجياً للصين وصديقاً لروسيا الاتحادية.