حراسُ التقوى.. حين ترمى الفنون بحجر!
”الآراء السائدة، خمولٌ فرديٌ“، يقول نيتشه. وآيةُ ذلك أن الإنسان عندما يكون ضمن الرأي الكلي للمجتمع، يستغني شيئا فشيئا عن فردانيته، لصالح أناة أكبر، أكثر شهوانية، وذات قدرة فائقة على الابتلاع!.
الفرد الخاملُ، هو ذلك الذي روضه الجميع، أو وجد نفسه غير قادر على مقارعة الخطوب، أو لا يملك جلدا على النزال!. هو ببساطة أناخ عقله في هودج الراحلة، وترك حادي العيس يقود القافلة إلى حيث يشاء!.
العقل الجمعي عادة ما تتحكم به مراكز قوى: رجال الدين، السلطة السياسية، أصحاب رؤوس الأموال، العادات والتقاليد، ولا ننسى أيضا ما يعتبره المجتمع منظومة أخلاقية عُليا.
مراكز القوى هذه، بقدر ما تشكل سياجا يحمي مصالحها وأفرادها. بقدر ما تمنع أي تعددية أو رأي أو اختلاف. وهي لا مشاحة لديها أن تستخدم العنف، رمزيا كان أو ماديا، في ردع أي خارج عن منظومتها، أو محاول للاقتراب من خطوطها الحمر المزعومة.
ولأنها القوة ”العالمة“، فهي وحدها القابضة على ”اليقين“. وهو قبضٌ يجعلها قادرة على التحكم في آليات الخطاب، وتوجيهه، والرسالة المضمرة والمعلنة بين ثناياه.
إلا أن ما فات هؤلاء أن ”اليقين أخطر من الكذب في عداوته للحقيقة“، كما يقول الفيلسوف نيتشه. لأن هذه اليقينية الصماء، هي ما تقود إلى العماء، وبالتالي تتضخم الأنا الجمعية بشكل مرضي، يجعلها مفصولة على واقعها، غير مدركة للتغيرات من حولها. وبالتالي تزداد الهوة بينها وبين الحقيقة يوما بعد آخر.
الحقيقة الماثلة أمامنا، هي أن الوقت يمر سريعا، والمجتمعات كيانات متحركة، حية، تعيش ضمن زمانها، وهي ليست وجودا مصمتا. وعليه، فإن التغيرات شأن كوني، مثل النهر الذي لا يكف عن الجريان، ولا يكرر نفسه مرتين.
سيرورة الحياة، وجريانها الدفاق، لا يتم من خلال قناة واحدة، بل هنالك جداول وأنهر متعددة. فليس هنالك من صراط مستقيم واحد، كما يرى الدكتور عبد الكريم سروش، وإنما هنالك ”صراطات مستقيمة“ تمثل طرائق عيش البشر.
هذه الطرائق يختارها الفرد لذاته، بكامل حريته، دون إكراهات أو ترهيب. لأن الحرية الفردية، وحرية الاختيار والتعبد والحياة والتنقل، هي أمور أساسية، يكفلها ”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان“، والذي يمثل أحد أهم الوثائق التي أنتجتها البشرية.
إن إيماننا بالحرية هو كلٌ لا يتجزأ. وإلا وقعنا في إشكالية الانتقائية، والاستخدام النفعي والأنانية.
الحرية التي تخول الشخص أن يمارس شعائره الدينية دون أي قيد أو شرط، هي ذاتها التي تخوله أن يمارس الفنون التي يحب، دون قيد أو شرط.
هذه المقدمة النظرية تدفعنا للحديث عن الضجة التي أثارها البعض في شبكات التواصل الاجتماعي، حول أمسية موسيقية، كانت ستقام في مقهى ”وقت القهوة“، بمدينة القطيف، شرق السعودية. وأعلنت عنها الشابة نعيمة أبو السعود، وهو الأمر الذي واجهه الكثيرون بحملة معارضة، رافضين إقامة الحدث الذي اعتبروه مخالفا لعادات وتقاليد المجتمع!.
القصة ربما يعتبرها البعض حدثا عابرا، وهي بالفعل كذلك. إلا أنها تعطي إشارات عن نوع من الوصاية الأبوية التي لازال يمارسها المجتمع. وكأن هنالك حراسا للتقوى، يسهرون على صون الفضيلة مما قد يصيبها من اضرار.
شخصيا، أنا من الأفراد المؤمنين بأهمية الفنون والموسيقى في حياة الإنسان. وأنها جزء من التربية الجمالية، التي ترفع الذائقة. وبالتالي فهي أمرٌ مستحسن، ودليل على رقي أي مجتمع في العالم.
ثانيا، هنالك انتهاك لمفهوم الحرية. فأي شاب أو فتاة في القطيف، أو سواها من مدن المملكة، له كامل الحرية في ممارسة ما يريد من فنون أو موسيقى. خصوصا أنه لم يُكره أحدا على المجئ. فالأمسية حدث اختياري، يمكن لمن يعتبر الموسيقى محرمة أن لا يحضر، ومن يعتبرها فنا، أن يكون بين المستمعين.
ثالثا، هنالك قسوة اجتماعية، جعلت مالك ”مقهى الوقت“، يلغي الفعالية، خوفا من تبعات ما قد يصيبه من مقاطعة أو تشهير أو تحريض. أي أن هنالك عنف رمزي مورس على آخرين دون وجه حق.
هذا العنف المعنوي واللفظي، لم يدفع صاحب المقهى إلى إلغاء الأمسية وحسب، بل اعتذر مرتين، ورجى أن يقبل اعتذاره، في بيان مقتضب. وزاد على ذلك بأن وصف المجتمع القطيفي بأنه مجتمع ”مؤمن“!. في حيلة لا تخلو من النفاق الاجتماعي، الذي هو حالة مرضية، يدفع العقل الجمعي فيها الأفراد، لارتداء أقنعة تخفي حقيقتهم، ويحمون بها ذواتهم!.
إن المجتمع في القطيف، ليس بالمجتمع ”المؤمن“. هو مجتمع طبيعي، بشري، عادي، يشابه أي مجتمع آخر في السعودية: الرياض، جدة، الدمام، أبها.. وإضفاء صفات جماعية، ذات طابع أخلاقي، امرٌ يجانب العلم والصواب.
إن مجتمعا ينادي بحرية ممارسة الشعائر، وبناء المساجد والمآتم، وحرية التعبير عن الرأي، وتكافؤ الفرص، والاحتكام لمفهوم المواطنة، وهي حقوق مشروعة، وجزء من واجبات الدولة المدنية الحديثة. هذا المجتمع لا يمكنه أن ينادي ب ”الحرية“ في الوقت الذي يقمع فيه التعددية بين أفراده، ويخاف ويغضب من حفل موسيقي!.
إن كنتم محبين حقيقيين للحرية، افتحوا نوافذكم للريح، ودعوا أشعة الشمس الدافئة، والريح الباردة بكل عنفوانها، تنفذ إلى بيوتكم وأرواحكم والعقول. حينها يكون الواحد منا حرا، يؤمن بأن قمر الأعالي ليس ملكا له وحده، بل نوره يكفي لجميع العشاق.