في النقد والمراجعة
المجتمعات التي تتطلع إلى تجاوز حالة التخلف، والسير قدماً على طريق النهضة، تحتاج إلى مراجعة الذات، وممارسة النقد الذاتي أولاً، وهو الأمر الذي تمّت الإشارة إليه في مقالة سابقة. فالمجتمعات الحية القادرة على تجديد نفسها والتقدم للأمام تتميز بقدرتها على النقد الذاتي، والتعلم من أخطائها، كون ذلك الوسيلة الوحيدة لإدراك القصور، والانطلاق من الواقع نحو مقاربات جديدة تستشرف المستقبل، وتعمل على بلوغه.
وعليه فإن أولى خطوات العلاج لتحقيق النهضة المرجوة تبدأ من تشخيص الأمراض الذاتية التي تعاني منها المنظومة الثقافية، وتقف حجر عثرة في طريق التقدم، ومن ثم البحث عن خريطة طريق للشفاء، تبدأ برصد مظاهر التخلف السائدة في البيئة المعاشة، والبحث عن أسبابهاوجذورها، ومراجعة الموروث والتجديد فيه، لأن ذلك يعد من العوامل الرئيسية لإعادة تشكيل وبناء المنظومة الثقافيةوتجديدها.
ولئن كان التقدم والتطور مرهون بما يحمله الإنسان من فكر وثقافة، فإن التخلف والتأخر هو أيضاً مرهون لنفس السبب، فالمفاهيم والقيم والأفكار وما تحمله من دلالات تنعكس بشكل لا إرادي في سلوك الناس وتوجهاتهم. لذلك ينبغي، كما يقول فوزي السيف، ”أن ننظر إلى ما هو موجود مما يصنف ضمن الثقافة الاسلامية، فنقوم بنخله وتصفيته، وحذف الأوهام والخرافات منها. كما ينبغي إصلاح الأفكار الخاطئة التي تدعو إلى التواكل والكسل أيضاً“. «1»
لذلك فإن أول خطوات النهوض وسلم الصعود هو إصلاح وتغيير البنية الثقافية السلبية. فحين تكون البنية الثقافية، والقاعدة الفكرية للإنسان، مؤسسة على أسس سليمة وإيجابية وفاعلة، فسوف تنعكس بشكل إيجابي، ليس فقط على بنيته الفكرية، بل أيضاً على مسلكياته، وتتحول إلى ممارسة واعيةوتلقائية، وتزيد من فاعليته وحركته فيالفضاء الذي يعيش فيه.
وغني عن القول بأن تخلف الأمم، أو نهضتها، مرهون بالمكانة التي يحتلها العقل في ثقافتها وعقيدتها. فواقع الحياة، ووقائع التاريخ الإنساني، تؤكد ”بأن الأمة التي تغتال عقلها، وتجبره تحت وطأة ضربات التخلف المتلاحقة على أن يتخلى عن المهمة الأكثر عبقرية له وهي النقد والمساءلة، تعيش بلا عقل، أو بعقل مُغتال، أو عقل متخلف. وأول مظاهر تخلف العقل رفضه حتى الاعتراف بحالة التخلف التي تجتاحه وتجتاح الفضاء الذي يعيش فيه. فعوض أن يبدأ في مساءلة أسباب هذا التخلف والغوص فيها، ينحو اتجاه إنكار تخلفه جملة وتفصيلاً، بل واتهام من يضع إصبعه على ذلك التخلف ويشير إليه، حيث يتمنطق المدافعون عن حالة التخلف، بمسميات شتى، وبشعارات شعبوية مستندين إلى قاعدة شعبية عريضة هي الأخرى يجرح كبرياءها النرجسي أن تعترف بالتخلف كخطوة أولى في طريق الإصلاح الذاتي ومواجهة الأسباب العميقة التي تقف وراءه“. «2»
ربما تعيش بعض المجتمعات حالة من النرجسيّة تمنعها من ممارسة النقد الذاتي وتقبل نتائجه، وتعتقد أنّها فوق النقد، وأعلى من التقييم والمحاسبة، وكأنّها في مرتبة العصمة التي لا يجوز خدشها، فيما الحقيقة أن النقد والمساءلة، وإن كان لا يخلو من الآلام، يُعد من أولى علامات التعافي والتحضر. فمراجعة المنظومة الثقافية، وغربلة الأفكار وتصحيحها، يُعتبر من المهمات الأساسية، بل من الأولويات، على طريق تغيير الأوضاع السلبية، والسير قدماً على طريق النهضة.
إن حياة الإنسان وتوجهاته ومستقبله تتأثر بما تحمله منظومته الثقافية من مفاهيم وقيم راسخة. فسلوك الفرد وتصرفاته ونمط تفكيره وتعامله مع محيطه هو انعكاس لتلك المكونات الثقافية والفكرية التي ساهمت في صياغة قاعدته المعرفية. وحين تطغى المفاهيم الحاضنة للتخلف، كالعجز والكسل والتواكل والتخاذل، وينمو الشعور بالدونية، عندها يفقد الإنسان قدرته على التفكير الواضح والمستقل، أو القدرة على استعمال عقله بالشكل الصحيح، والتحرك بطريقة إيجابية وفعالة من أجل تطوير نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه.
وإذا ما كانت هذه القيم السلبية سمة غالبة بين أفراد أي مجتمع عندها تنعدم قدرته على مواجهة أسباب التخلفوسلوك طريق الإصلاح والنهضة، ويستسلم لضربات التخلف، ويتقبل بمليء إرادته بما يفرضه عليه الآخرون. إلا أن المجتمعات الواعية التيتأسست فيها القيم الثقافية الدافعة والمحفزة على التقدم والنهوض، وأعلت من مكانة العقل في منظومتها الثقافية، فإنها ترفض الاستسلام لواقع التخلف وحالة الجمود، أو القبول بأفكار التكاسل واليأس والعجز والتواكل، أو التبعية للآخرين والخضوع لإملاءاتهم.
بيد أن النجاح أو الفشل فينقد ومراجعة وإصلاح المنظومة الثقافية مرهون ببناء الإنسان الواعي الذي يكتسب المعارف ويطور ملكاته الذهنية والنقدية، ويُنمّي في ذاته الحس النقدي، كقيمة وممارسة، بحيث يكون قادراً على التعامل مع تطورات عالمه وقضايا مجتمعه بعقلانية حيادية، وبروح عالية من المسؤولية الأخلاقية، فيلتزم بقضايا أمته ومجتمعه، ويتحمل مسؤولية النقد بشكل موضوعي وعلمي منصف، بغية تحديد الإيجابيات والسلبيات، من دون مبالغة في المدح والإطراء، أو في الذمّ وجَلد الذات، وبعيداً عن الأحكام المسبقة، أو العشوائية في التقييم، أو إتباع الأهواء والمكابرة والتعصب للرأي، أو الإحجام عن قبول الحقيقة.