آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:42 م

في الجغرافيا والصراع الدولي

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

كان الصراع على المنطقة، ولا يزال صراعاً، على مواقع استراتيجية وأراض ومصادر للثروة، وهيمنة سياسية. وقد كان من دواعي الانكشاف والوهن العربيين، غياب القدرة على التصدي للأطماع الدولية، في ظل انفراط التضامن العربي والأمن القومي الجماعي، وأيضاً في ظل التغيرات الهائلة التي طرأت توازنات القوة.

لقد كانت الجبال والحصون المنيعة في العصور القديمة، ضماناً لحماية المدن، لكن التطور الهائل في مجال التسلح، أوجد حقائق جديدة. فالحروب الحديثة تدور بأسلحة من نوع مختلف عن تلك التي استخدمها الإنسان في الماضي.. إنها تدور بالصواريخ والدبابات والطائرات وقاذفات القنابل، كما تدور بالمخابرات وجمع المعلومات. وتخضع لنظام اقتصادي عالمي يقرر اللحظة المناسبة لضخ أمواله، ومتى يخضع البلاد لمضاربات السوق، ويقرر أيضاً اللحظة التي يسحب فيها تلك الأموال ويهدد اقتصاد البلاد من الداخل في غفلة أهلها وانشغالهم.

وكانت البحار من أسباب استتباب السلام والرخاء، وأيضاً سبباً في الأطماع والحروب. وهكذا رأينا أن المواقع التي شهدت انبثاق الحضارات المصرية والفينيقية واليونانية والرومانية القديمة كان معظمها في البحر الأبيض المتوسط، وقد شهدت أهوالاً وحروباً، أودت بحياة الآلاف من البشر.

وكما كان الموقع سبباً في رخاء أثينا، وتحقق نهضتها، كان أيضاً سبباً في دمارها واضمحلال دورها. فكون المدينة مفتوحة من جهة البحر، قد سهل على الغزاة احتلالها واستباحتها... وكما كان هذا البحر مكمن سرها الذي باحت به لسائر البشرية، كان الوسيلة التي انتقلت من خلالها علوم وتجارب المصريين من الجنوب والفينيقيين من الشرق؛ حيث كانت القوارب تمخر من حوض البحر الأبيض المتوسط، لتصل إلى حاضرة اليونان ناقلة العلوم وآخر الأخبار.

ولعل من نافل القول الإشارة إلى أنه يكاد لا يوجد بيننا من لم يسمع عن حضارات المتوسط، في حين تغيب عنا إنجازات الحضارات المقفلة وإبداعاتها.

والجغرافيا تبعث على تنوع الأوضاع أكثر مما تبعث على الوحدة. ولذلك، فإنه لا يمكن أن يكون الحديث متطابقاً عند التعرض للمجتمعات الكثيفة السكان على أرض مصر، التي عرفت الري منذ خمسة آلاف عام، ومجتمعات مناطق الزراعة غير المروية المتناثرة أو مجتمعات الرعي في الصحاري الإفريقية وفي شبه الجزيرة العربية.

وحين جرى التخطيط لاغتصاب فلسطين، كانت أهمية الموقع في القلب من مشروع الاغتصاب، فعلى سبيل المثال، جاء في رسالة اللورد روتشيلد إلى رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون: «إن هناك قوة جذب متبادلة بين العرب وعودة مجدهم المرهون بإمكانات اتصالهم واتحادهم. وأن فلسطين هي الجسر الذي يصل بين مصر وبين العرب في آسيا.. فلسطين هي بوابة الشرق؛ حيث يجب زرع قوة عدوة لتكون حاجزاً». وفي وثيقة كامبل نيرمان يرد النص التالي: «إن من يسيطر على الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط يسيطر على العالم، وأن الخطر الأكبر يكمن في الشعب الموجود على شواطئه، نظراً إلى ما يتوفر فيه من مقومات الترابط». ولذلك توصي الوثيقة بفصل الجزء الإفريقي عن الجزء الآسيوي عبر إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الحسر الذي يربط بين الجزءين، في فلسطين.

ويصح أيضاً القول، إنه بالقدر الذي يكون فيه الجوار عامل جذب خلاق، فإنه يكون عامل صراع ونفور. ويبرز ذلك بوضوح في الصراع المرير الذي طبع العلاقة بين الإمبراطورية الفارسية وبين مختلف الحضارات التي تعاقبت على العراق من سومرية وبابلية وكلدانية وعربية. وكذلك الصراع المرير في العصر الحديث بين فرنسا وألمانيا وتركيا واليونان... بما يعني استحالة قيام حضارتين متكافئتين متجاورتين، وفي مرحلة تاريخية واحدة من دون أن تكون هناك صراعات وحروب... إن صعود حضارة مجاورة، ضمن هذا التصور، يستلزم بالضرورة إما استمرار الصراع بينهما، أو تداعي إحدى تلك الحضارات لصالح الأخرى.

الموقع الجغرافي، في الأغلب، يعيش حالة ثبوت نسبي. ولذلك يصبح صحيحاً القول إن الدول، على عكس الأفراد، لا يمكن أن تختار جيرانها؛ إذ ليس في إمكانها أن تنتقل بموقعها أو تجبر جيرانها على تغيير مواقعهم. ولم يحدث عبر التاريخ القديم أو الحديث، أن جرت إبادة جماعية لجنس من البشر، تمكنت من استئصال شافة الشعب المستهدف، إلا في حالات تبدو نادرة جداً، كإبادة الهنود الحمر في أمريكا، وتشريد الشعب الفلسطيني من دياره، وما حدث للأرمن في بلادهم على يد الأتراك... وحتى هذه الأمثلة تبدو موضع سؤال مادامت تلك الشعوب مستمرة في نضالها لتحقيق التحرر والانعتاق.

وهكذا، فإن علاقة الجوار هي سلاح ذو حدين.. فهي عامل قوة حين تكون العلاقات متوازنة، وحين يؤخذ في الاعتبار المصالح المشتركة للمتجاورين، وهي عامل ضعف حين تطغى قوة على أخرى. والأراضي المجاورة، هي في الأغلب، الطرق التي تعبر منها جيوش الاحتلال، وهي من مسببات تسهيل عمليات الاختراق. فلكي يتم لجيوش الغزاة احتلال أراضي دولة ما، فإنها تحتاج إلى مواطئ قدم وإلى ممرات وطرق تعبر من خلالها إلى أراضي الدولة المستهدفة بالاحتلال.

ومع ذلك، فإنه لا بد من التسليم بأن حالة الجوار هي القدر الجغرافي الذي على الدول أن تعيش وتتعايش معه. والحدود الإقليمية لدولة ما هي بطبيعتها أطراف رقعتها السياسية، تمثل خطوط توازن القوة وجبهات التحام الضغوط السياسية على جانبيها، وفيها تتحدد المداخل والنقط الاستراتيجية الحاسمة.