الجهل تنوير وادعاء العلم ظلام
سأبدأ مقالي بالتساؤل التالي: هل الجهل موضع فخر واعتزاز؟
ليس من السهولة بمكان الإجابة على هذا التساؤل، بنعم أو لا. بل لابد من سبر حناياه وذلك بأن نتيح للعقل ممارسة دوره التأملي الفكري الذي يكمن في تثوير التساؤلات في داخلنا.
دعونا نبدأ مشوارنا التأملي، ونتصور بأننا جالسون نستمع إلى محاضرة علمية أو ندوة فكرية أو دردشة ثقافية، فإذا المحاضر يترنم ويتغنى بالجهل ويصك مسامعنا بعبارات ومفردات تعلي من شأن الجهل وترفع من قيمته، ويعتبره موضع اعتزاز وإجلال وفخر لدى المتصف به، ويحثنا على تمجيده وتقديسه، والحرص على أن نكون متواضعين أمام جهلنا، مستشهداً بمقولة الأديب جبران خليل جبران، وهي: «أنا لا أعرف الحقيقة المجردة ولكني أركع متواضعاً أمام جهلي، وفي هذا فخري وأجري».
لا أجانب الحقيقة لو قلت بأن الحاضرين - لمثل هذه المحاضرة أو الندوة التي يطرح فيها ما يرفع من مقام الجهل - سيعيشون حالة صدمة وذهول ودهشة واستغراب مما سمعوه.
بيد أن هذه الدهشة ينبغي ألا تستمر طويلاً وذلك بإتاحة الفرصة للعقل أن يستعيد زمام الأمور ويلعب دوره التفكري ويواصل رحلته التأملية بحفر مثل هذه المقولة معرفياً.
لنطرح السؤال الأبرز في هذا الصدد على أنفسنا، وهو:
هل نحن أقرب إلى الجهل من العلم، أم إلى العلم من الجهل؟
لو كل متخصص دقق وتأمل في حقيقة مقدار إحاطته المعرفية في دائرة تخصصه واهتمامه انطلاقاً من كون الجهل يعني الخفاء وعدم العلم، لوجد بأن ما يملكه من إحاطة معرفية في تخصصه من القلة بمكان، قياساً لما خفي عنه. فإذا كان هذا هو حال واقعنا المعرفي في دائرة تخصصنا ومواضع اهتمامنا ومتابعتنا، فما عسى أن يكون حالنا اتجاه التخصصات المعرفية الخارجة عن دائرة اهتماماتنا وشغفنا؟
فإذا كان هذا هو واقعنا - كثرة ما نجهله مقابل ما نعلمه، كما قال الشاعر:
قل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء -
فهل نستسلم لهذا الواقع؟
الوقوف على حقيقة واقعنا المعرفي هو عين العلم والمعرفة وتمام الإحاطة، وخفاؤها عنا هو عين الجهل وتكبيل العقل. ولذا أول خطوة ينبغي علينا السير فيها أن نعرف حقيقة واقعنا المعرفي، ولأي منطقة معرفية ننتمي، وبهذا نجسد قول أحمد شوقي: من عرف نفسه بعد جهل وجدها ومن جهل نفسه بعد معرفة فقدها.
ولو عدنا لمقولة الأديب جبران خليل جبران، ودققنا النظر فيها وقمنا بعملية تثوير دواخلها بإثارة التساؤل التالي:
هل جبران خليل جبران تلك الشخصية الأدبية - التي امتزجت تجاربها الثرية في المهجر مع عشقها للأدب العربي فوظفت أدبها في المضمار الفكري، فكان نتاجها نتاجاً ذات صبغة تأملية تفكرية - يتصور فيها نزوعها نحو تمجيد الجهل وإعلاء رتبته ومكانته؟
القراءة القشرية لمقولة جبران تذهب بنا نحو فهم خاطئ لمراده. فجبران لا يروم من مقولته الاعتزاز بالجهل والفخر به، وإنما كان يدعو إلى التأمل في حقيقة نفوسنا وواقعنا المعرفي لننطلق نحو ما تنشده فطرتنا الإنسانية الساعية نحو الكمال والجمال في أعلى مراتبه المتمثل في العلم والمعرفة. فالجهل الذي يعتبره جبران موضع فخر واعتزاز هو علمه ومعرفته بواقعه المعرفي. وليتضح مقصود جبران نحاول استعراض أقسام الجهل:
1 - جهل بسيط: المتصف به يعلم بحقيقة جهله.
2 - جهل مركب: المتصف به لا يحيط بالأمور علماً ولكن يعتقد بأنه عالم بها. وهنا تكمن المصيبة لأنه جاهل ويجهل بأنه جاهل.
فجبران عندما يقول: «أركع متواضعا أمام جهلي، وفي هذا فخري وأجري» يقصد القسم الأول من الجهل وهو الجهل البسيط، الذي يحمل في ثناياه علم ومعرفة، وليس مقصوده القسم الثاني وهو الجهل المركب الذي أشد أنواع الجهل خطراً.
وما ذهب إليه جبران من رؤية تتوافق مع رؤية عظيم من عظماء الفلسفة وهو سقراط، إذ يقول في هذا الصدد: «لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أنني لا أعرف شيئاً».
فسقراط الذي شكلت آراؤه ضربة موجعة للسفسطائية حتى تقوضت أركانها، يبين لنا بقوله هذا أمرين في غاية الأهمية، وهما:
كل فرد منا ينتمي إلى قسم من أقسام الجهل.
العالم بواقعه المعرفي هو العالم حقاً، والجاهل بواقعه المعرفي هو المتمحض في الجهل.
بعد هذا أود الوقوف أمام تساؤل في غاية الأهمية، وهو: هل سلوكياتنا وعقائدنا وآراؤنا خاضعة لتأثير الجهل كما أنها خاضعة لتأثير العلم والمعرفة؟
لا شك ولا ريب بأن سلوكياتنا وعقائدنا وآراؤنا خاضعة لعامل الجهل والمعرفة. وعلى ضوء معرفتنا للقسم الذي ننتمي إليه من الجهل تتشكل عقائدنا وقيمنا المعرفية وآراؤنا وسلوكياتنا ومواقفنا اتجاه الأشياء والأمور.
فالإنسان الذي يعرف فصيلة جهله سيرسم لنفسه خارطة طريق تخرجه من الجهل إلى العلم والمعرفة، أما المصيبة العظمى والطامة الكبرى إذا كان الإنسان يعيش حالة الجهل المركب تجده يدعي العلم وهو بمنأى عنه، وهذا ما نلمسه من بعض أدعياء الفكر والتدين الذين يكرهون الوعي ويسيرون في ظلام الخرافة.
ولذا ينبغي على المرء أن يجعل من الجهل طريقاً نحو العلم كما قال المفكر جان جاك روسو: «الطريقة الوحيدة لتفادي الخطأ هي الجهل».
وهذا ما يؤكد عليه مارك توين، حيث يقول: «كل ما نحتاجه لتحقيق النجاح في الحياة هو الجهل والثقة».
ولا يخفى علينا بأن الجهل الذي نحتاجه لننطلق نحو العلم والمعرفة والذي أشار إليه روسو وتوين هو الجهل البسيط وليس الجهل المركب.
وعلى هذا الجهل البسيط بالإمكان أن يعطي أثره كمقتض إذا كان المانع مفقوداً المتمثل في الجهل المركب، حيث أن الجهل المركب يمنع صاحبه من البحث عن المعرفة لاعتقاده بأنه يعلم، وبالتالي لا يجد في نفسه الحاجة للبحث عن المعرفة، وعلى ضوء ذلك يتشكل المانع الذي يمنع الجهل كمقتض من أن يعطي أثره.
وإذا عرفنا بأن الجهل يعطي أثره متى ما كان المانع مفقوداً، نستكشف بأن للجهل بهاء وجمال وكمال، مادام يحفزنا على أن نرسم لأنفسنا خارطة طريق تخرجنا من الجهل إلى المعرفة وأخيراً أدعو الله راجياً من فضله الواسع أن يتفضل علينا بأن ينبهنا لمواضع جهلنا، وأن يبعد عنا الحجاب الذي يحجب عنا المعرفة وهو الجهل المركب وادعاء العلم. فادعاء العلم هو أشد خطورة من الجهل كما يقول المفكر الإيرلندي جورج برناردشو: «انتبه! ادعاء المعرفة أشد خطراً من الجهل» .