آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 7:28 م

أطباء بلا أعياد

كميل السلطان

يعود من صلاة العيد إلى بيته، يدخل البيت لتجتمع عائلته حوله يهنئونه بالعيد، ثم يمضوا جمعيا إلى المطبخ ليعدوا وجبة الإفطار، يرن هاتفه النقال بلا توقف، هو مشغول عنه في المطبخ، يحمل ابنه الهاتف إليه مهرولا، أبي أبي.. هاتفك يرن باستمرار يا أبي، الأب: هاته يابني، لعله عمك عبدالعزيز يريد أن يهنئني بالعيد، ينظر إلى الهاتف وإذا بوجهه قد تغير، أحست عائلته بذلك فأوجم الجميع وحل الصمت والذهول.

زوجه تنظر إليه بنظرات ملؤها الترقب والحيرة وهو يبتعد شيئا فشيئا، يجيب على هاتفه: السلام عليكم، هل من خطب، نعم يا دكتور فلدينا حالة حرجة جدا لطفل نقل إلينا في حالة خطيرة بسبب دهس سيارة ويعاني من كسور شتى وإصابة بالغة في الرأس، فهلا تحضر سريعا فنحن بحاجة إلى استشارتك وربما تدخل عاجل منك، ألا يمكن لبقية الزملاء اتخاذ التدابير وعمل اللازم فأنا.... قاطعه قائلا: الحالة طارئة يا دكتور.

أغلق الطبيب الهاتف وتوجه فورا إلى تلك الطاولة في وسط البيت ليأخذ مفاتيح سيارته، لبس الدكتور نظارته وحمل المفاتيح والهاتف بيد وأمسك بمقبض الباب باليد الأخرى هاما بالخروج، وإذا بصوت طفتله من خلفه:

الابنة: أبي إلى أين تمضي الآن.

التفت إليها وهو يقول: إلى المستشفى يا ابنتي فهنالك من يحتاج مساعدتي فورا.

الابنة: ولكن اليوم هو العيد يا أبتي.

الأب: أعلم يا ابنتي ولكن هنالك حالة حرجة جدا ولا تحتمل الانتظار.

الابنة: ألم نكن على موعد للذهاب إلى بيت جدي وجدتي لنلتقي بهم هناك ونمضي معهم العيد عوضا عن تخلفك في الأعوام السابقة.

الأب: بلى يا ابنتي: ولكن عملي يستوجب علي مساعدة من يحتاج إلى خدماتي في أي وقت.

تأتي الأم لتأخذ ابنتها وهي تقول لا تؤخريه عن عمله، التفتت إلى زوجها قائلة: اذهب إلى شأنك وأنا سأتولى الأمر.

مضى الطبيب سريعا إلى المستشفى وهو يتحدث بالهاتف إلى زملائه والطاقم الطبي عن نتائج بعض الأشعة والتحاليل التي أجريت للطفل وعن آخر التطورات في حالة الطفل، حتى وصل إلى المستشفى وهو يسمع صراخ أم الطفل وحيرة أهله وترقب والده لكل طبيب يأتي ويذهب، توجه إلى غرف العناية الفائقة فورا، وجد طفلا مضرجا بالدماء يتنفس بصعوبة والأجهزة على جسده، تحيط به مجموعة من الأطباء.

اقترب إليه أحد الأطباء وهو يقول: الإصابة في الرأس ولكنا لا نعلم ما إذا كنا قادرين على عمل جراحه له أم لا بسبب النزيف والكسور، طلب صور الأشعة ليعاينها بنفسها، تأمل بها طويلا ثم قال لهم لا خيار لنا إلا الجراحة فإن لم يتوقف النزيف سيموت حتما.

خرج الطبيب ليلتقي بأهل الطفل الذين أحاطوا به قائلين: هل ابننا بخير، ما الذي يعانيه، مالذي جرى، خاطبهم الطبيب حينها: سنجري له جراحة عاجلة الآن ولعل الله يكتب له الشفاء، سمع الطبيب تمتمات أمه التي خالطت دموعها وأنفاسها المتقطعة وهي في نشيج ونحيب تقول: آه يا ولدي لقد أضعتك في العيد، وبالقرب منها كان زوجها يصيح: ليتني لم أسمح له بالخروج لشراء الحلوى واللهو مع أقرانه، فعاد إليهم الطبيب قائلا: أحبتي طفلكم الآن يحتاج إلى دعائكم، فقال له الأب" افعل ما بوسعك من أجله أيها الطبيب وسندعوا الله أن يكتب له الشفاء ولك النجاح.

مضى الطبيب إلى غرفة العمليات ليجري العملية التي استمرت ثلاث ساعات وسط دعوات وابتهالات والدي الطفل، خرج الطبيب من الغرفة بعد أن انتهى من الجراحة ليستقبله والدي الطفل: دكتور ماذا حدث، فطلب منهم أن يدعوا له، فالشفاء بيد خالقه ومولاه ولعل الله يكتب له عمرا جديدا في هذا العيد.

أوصى الطبيب بمتابعة حالة الطفل باستمرار وإخطاره بأية تغييرات تطرأ على حالته، مضى الطبيب إلى مكتبه وفي الطريق مر على غرف المرضى، كان الطريق إلى مكتبه طويلا وهو يسمع آهات الأطفال وأنات المرضى وابتهالات الأمهات ودعواتهن لأطفالهم، صراخ من تلك الغرفة، وصوت هدهدة لأم هناك تحاول تهدأت طفلها كي ينام، وتمتمة لأم أخرى تحرك لسانها تقرأ على صغيرها، وصوت لعبة بيد طفل يعبث بها على سريره الراقد عليه، أناشيد تتعالى أصواتها هناك تنبعث من إحدى هواتف الأمهات تخفف عن صغيرها وتلهيه بها، فجأة والطبيب مستغرق في تلك المشاهد حتى وجد نفسه على باب مكتبه، فدخل واغلق الباب على نفسه.

جلس الطبيب ووضع رأسه بين يديه وعلى الطاولة وهو يحدث نفسه، أضاقت بك نفسك حين خرجت وتركت أطفالك في يوم العيد لساعات تنجز بها عملا فتعود بعدها إلى صغارك وأنت تسمع صوت آلام الأطفال ومعاناة الأمهات هنا في سجون المستشفيات لا يعرفون طعما للعيد ولا معنى لملبس جديد، الحمدلله على كل حال، وكأنما الطبيب وهو يحدث نفسه غفا قليلا، وإذا بنداء داخل المستشفى يطلب حضوره ذهب فورا فطلب منه أحد طاقمه الطبي أن يقرأ هذا التقرير عن حالة الطفل واذا به يفاجئ باستقرار حالة الطفل، ذهب فورا إلى غرفته ليتفقد الحالة بنفسه نظر إلى الأجهزة وتفقده بنفسه فتبسم الطبيب واستبشر بما وجده من تجاوب، خرج الطبيب إلى والديه ليقول لهم لهم بأن الله استجاب لدعائكم وهذا هو طفلكم يستجيب وتستقر حالته ويتلاشى الخطر عنه.

عاد الطبيب لأحضان أسرته بعدما تركها في يوم العيد لينقذ أعياد المرضى والمصابين في المستشفيات، عاد كي يرضي طفلته التي عاتبته طويلا لغيابه المتكرر عن مناسباتهم في سبيل انقاذ الناس من الغياب عن أسرهم للأبد.