المسألة الفلسطينية وتعقيدات الصراع
حدثان أخذا مكانهما بالأراضي الفلسطينية المحتلة، في الأسبوعين الأخيرين، حرضا على كتابة هذا المقال. الأول، هو مشهد احتفال حركة فتح بذكرى رحيل عرفات، ورفع صوره في مسيرات شقت شوارع غزة، وتعرضت للقمع من قبل أجهزة الأمن الفلسطيني في قطاع غزة، بقيادة حركة حماس. والثاني، حدث في الجمعة الفائتة، برام الله، حين احتفل أنصار حماس، بالذكرى الثلاثين لتأسيس حركتهم، وقاموا بمسيرة شقت شوارع رام الله، حاملين أعلام حركتهم، وتعرضت لها قوات السلطة الفلسطينية، وحالت دون استمرارها.
الغريب أنه في كلا الحالتين، كان هناك عدوان «إسرائيلي» في المرة الأولى على قطاع غزة، ورغم ذلك وجدت حماس متسعاً من الوقت للحيلولة دون استمرار مظاهرة سلمية تحتفي بالراحل الرئيس ياسر عرفات. وفي الجمعة الأخيرة، كانت غزة ورام الله تتعرضان لعدوان «إسرائيلي» في آن معاً، واستحقاقات التصدي لمواجهة العدوان، لم تفرض على التنظيمين، فتح وحماس، الاحتكام، للغة الوحدة الوطنية والنضال المشترك، ومواجهة لحظة التحدي، بشكل يرتقي فوق النزعات الإقصائية، والتصفوية.
إن قراءة ما جرى، تعيد إلى الذاكرة، تعقيدات القضية الفلسطينية وتشابكها، وارتباطاتها الإقليمية والدولية، وطول أمدها، وغياب استراتيجية فلسطينية كفاحية موحدة، بما جعل منها مسألة مستعصية على الحل. فقد تلازمت قضية تحرير فلسطين، بقضية النهضة.
لقد تزامن الكفاح العربي لتحقيق الاستقلال عن الهيمنة العثمانية مع حراك «إسرائيلي» واسع لحيازة فلسطين. وكما كان التدخل الاستعماري فاضحاً، للحيلولة دون تحقيق وحدة المشرق العربي، من خلال فرض اتفاقية سايكس - بيكو كأمر واقع، كان التدخل أيضاً صارخاً في مسألة اغتصاب فلسطين، من خلال فرض وعد بلفور كأمر واقع أيضاً. ولهذا يغدو اعتبار المسألة الفلسطينية، كقضية العرب المركزية، مسألة جوهرية، بسبب التلازم الحاد بين المسألتين: المسألة العربية والمسألة الفلسطينية.
وهكذا ساد شعور لدى غالبية النخب العربية والقوى الشعبية، إن نجاح العرب في حل معضلة أي من المسألتين، يعني بداهة قدرتهم على حل المعضلة الأخرى. ومن هنا تم رفض الفصل بين القضيتين، فالعلاقة جدلية، لا تسمح مطلقاً بين الوطني والقومي، أمناً ومصلحة وتاريخاً، ومستقبلاً أيضاً.
إن النزعة القطرية في التعامل مع المسألة الفلسطينية لم تجعلها تتقدم قيد أنملة، ولم تسعفها بأي اعتبار، بل أسهمت في تشظيها، وأعفت النظام العربي الرسمي، في كثير من الأحوال، منذ منتصف السبعينات، من مسؤوليته تجاهها، تحت ذريعة أن أهل مكة أدرى بشعابها، وأن القضية بالدرجة الأولى هي شأن فلسطيني.
لقد أسهم الضعف العربي، وعدم إمساك العرب بناصية المبادرة لحسم الصراع، والقدسية التي تحظى بها مسألة فلسطين بالنسبة للمسلمين جميعاً، في مضاعفة التدخلات الإقليمية، بحيث أصبحت لاحقاً تمثل عبئاً على الأمن القومي العربي، وتهدد سلامته. وتتعاظم المسألة، حين ندرك البون الشاسع بين الدماء المسفوحة، والتضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني، بشجاعة وبسالة، والنتائج السياسية لتلك التضحيات.
فخلال العقود الخمسة المنصرمة، سادت مقولة، رددها الإعلام العربي كثيراً، خلاصتها أن العرب عاجزون عن مواجهة العدو عسكرياً، وبسبب عدم قدرتهم على المواجهة العسكرية، خضعوا للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وبشكل خاص القراران 242 و338 وكلا القرارين تعاملا مع المسألة الفلسطينية كقضية أراضٍ متنازع عليها بين «إسرائيل» والعرب، وليس حق شعب في تقرير مصيره، وإعادة ما اغتصب من أراضيه.
ومع قبول العرب ب «الشرعية الدولية»، بدأت حقوقهم بالتآكل، وأخذ العدو يتراجع حتى عن شروطه الأصلية لتحقيق سلام مع العرب. ومنذ توقيع كامب ديفيد، أول معاهدة «سلام» رسمية بين نظام عربي و«إسرائيل»، أصبح مألوفاً وطبيعياً، أن يتراجع «الإسرائيليون» عن المعاهدات والمواثيق التي قطعوها على أنفسهم، لصالح التسوية مع العرب.
القراءة الأمينة والدقيقة لواقع صراعنا مع «إسرائيل»، توضح بشكل لا يقبل الجدل، زيف مقولة قدرة «إسرائيل» على حسم معاركها عسكرياً مع العرب، وتؤكد أن العجز العربي، كان دائماً ولا يزال هو في إدارة المعركة سياسياً، وأن الفشل لم يكن في ساحات المواجهة العسكرية.
لقد حدثت نكبة فلسطين عام 1948، ومعظم البلدان العربية تحت الهيمنة الاستعمارية المباشرة. وقيادة الجيوش العربية تحت إمرة ضابط بريطاني. وقد كشفت وثائق تلك الحرب، أن الفشل لم يكن عسكرياً، فحسب، بل كان فشلاً في مواجهة حضارية. وبصيغة أكثر تشاؤماً يمكننا القول إن بعض القيادات العربية كانت ضالعة في تفاصيل المخطط الصهيوني.
في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كان الأداء رائعاً على الصعيدين العسكري والسياسي، وكانت النتيجة نصراً عظيماً احتفل به العرب جميعاً.
وتكاد تكون نكسة يونيو/ حزيران عام 1967 هي حالة المواجهة الوحيدة، التي كانت الهزيمة العسكرية العربية فيها واضحة وكاملة. لم يحارب العرب أبداً في تلك المواجهة، والنتائج تقررت منذ الضربة العسكرية الأولى للمطارات والقواعد العسكرية المصرية.
منذ النكسة حتى تاريخه، لم يتمكن الكيان الصهيوني من حسم أي مواجهة مع العرب، بالخيار العسكري وحده. بل ربما أمكننا القول إنه في مجمل المعارك التي دارت بين العرب والعدو لم يتمكن الصهاينة، من حسم معركة واحدة، بالحل العسكري لصالحهم.