آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:42 م

في الهوية وفيدراليات الطوائف

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

تزامن الحديث عن الفيدراليات، بالوطن العربي منذ مطالع التسعينات من القرن المنصرم. وفي هذا الصدد برزت مشاريع سياسية عدة من خارج المكان. والمعنى المتضمن في تلك المشاريع، هو تأسيس أنظمة سياسية «فيدرالية»، على مقاس الطوائف بالأقطار العربية، المزمع إقامة تلك الفيدراليات بأرضها.

وقد أريد أن يكون العراق، الفرن الذي تتم فيه هذه التجربة. والدافع إلى ذلك، هو تعدد الانتماءات المذهبية والدينية والإثنية في هذا البلد العريق. وكان الاحتلال الأمريكي للعراق في إبريل/ نيسان عام 2003 محطة رئيسية لوضع تلك المشاريع قيد التنفيذ.

ومرة أخرى، يعاد طرح هذه المشاريع في أقطار عربية أخرى، في قائمة طويلة ضمت حتى الآن سوريا واليمن وليبيا، ويرشح السودان ومصر، للانضمام لاحقاً لهذه القائمة. ويطرح في هذا السياق، الاستعاضة بالتشكيلات القبلية بالبلدان التي لا يتواجد فيها تعدد مذهبي أو ديني أو إثني، كما هي الحالة مع ليبيا.

ومخاطر مثل هذه المشاريع، أنها تفتت الأوطان، وتسهم في تعريض الأمن الوطني والقومي للخطر. إنها تستعيض بالهويات الجزئية بديلاً عن الانتماء الوطني. ذلك أن المجتمعات الإنسانية، تتطور وتزدهر، بالقدر الذي تتسع فضاءات الهوية، وتصبح أكثر إنسانية ورحابة، مستجيبة في ذلك لقانون التراكم والتعاقب والتحول. إن الانتماء الوطني، يعني تجاوز شبكة العلاقات القديمة، عشائرية وقبلية وطائفية وفئوية، وبنياتها البطركية، ورفض زيف مقولة انسداد التاريخ.

وبديهي أن تجاوز تلك الشبكة من العلاقات، هو السبيل إلى تضعضع جملة المرتكزات التي أسست عليها. إن هذا التجاوز هو وحده القادر على الإسهام في تشكيل بنيات جديدة على أسس مدنية، يكون من نتائجها انبثاق ثقافات وأعراف وتقاليد جديدة، تختزن في رحمها مخاض الولادة لهوية، تقوم على أساس المصالح المشتركة، وتصبح تعبيراً عن خصوصية وملامح المرحلة الوليدة. كان التطور التاريخي قد أفرز أنماطاً حكومية جديدة، ونُظماً سياسية حديثة، تستند على العلاقات التعاقدية بين أبناء المجتمع الواحد، في بنيتيه السفلى والعليا، أحد أهم عناوينها الوحدة الوطنية. تتأسس من خلالها هوية جديدة هي ما نطلق عليها مجازاً بالهوية الجامعة، التي يمثل نشوء الدولة المدنية، بعناصرها المعروفة، أحد تجلياتها وتعابير الانتماء لها. وتلك كانت قمة الارتقاء بمفهوم الوطن.

لقد كانت الهويات الفرعية، في العهود السحيقة، ضرورة للبقاء واستمرار النوع الإنساني، عندما بدأت البشرية تلمس خطواتها الأولى. وكانت هذه الهويات عناصر لازمة منذ بدأ الإنسان في التجمع والاستيطان، في خضم الصراعات المحتدمة من أجل الحصول على الكلأ والماء، معبرة عن خصوصية ثقافة وعادات وتقاليد كل مجموعة وعن تمايزاتها، لتفصل بينها، وبين المجموعات الأخرى. وقد بقي لهذه الهويات شأن لا يستهان به قبل نشوء الدولة الحديثة؛ حيث كانت الحصن المنيع الذي تتمترس خلفه المجموعات البدائية، دفاعاً عن كينونتها، أمام هجمات الأغراب.

أما وأن الحركة التاريخية، والتطور الإنساني، قد أفرغا تلك الهويات من مبررات وجودها، وجعلا من تجاوزها أمراً ملحاً، وضرورة لتحقيق النهضة‘ فمحاولات بعثها، أو التشبث بتركتها، تغدو فعلاً معوقاً لمشاريع التنمية، وعامل تفتيت وفرقة. وهي في ذلك، على النقيض من الهوية الوطنية الجامعة التي تحتشد تحت فيئها الجموع، من أجل تحقيق منظومة من الأهداف والتطلعات المشتركة.

بمعنى آخر، الهوية الجامعة، ناتج وحدة مجتمعية، تتسق مع التحولات الإنسانية المتجهة نحو كتل كبرى من الشعوب. وهي التي بمقدورها نقل المجتمع العربي، من واقعه المتخلف إلى مجتمع حديث متقدم. وأيضاً لكونها تتسق مع اقتصادات الأبعاد الكبيرة.

نحن إذاً إزاء معادلتين: الأولى هوية جامعة، تزج بطاقات الشعب بأسره في معركة البناء، بينما تجعل الهويات الجزئية، من أبناء الوطن كتلاً هلامية متناحرة، تهتم كل كتلة بشأنها الخاص، وأوضاعها الخاصة. ومن أجل ضمان استمرار كانتوناتها، لا مناص من التمسك بالاستتباع للقوى الخارجية؛ لكي تحميها على حساب مصلحة الوطن. وتغييب التنمية المستقلة، والإرادة الحرة. وبالتأكيد سيكون الحديث عدمياً، في ظلها عن الديمقراطية والدولة الحديثة، والدستور والمؤسسات، كما هو عدمي وزائف الحديث عن السيادة والاستقلال والحدود العصية على الاختراق.

في الهوية الجامعة: الهوية الوطنية، يصبح الحديث عن المجتمع المدني تطابقاً بين المعنى والواقع، وبين المضمون وتماهياته. ويحدث تفاعل مبدع، بين الزمان والمكان، فتصبح الهوية نتاج تمازج خلاق بين العناصر الأصيلة والحية في التاريخ، بما في ذلك الإسهامات الفكرية والثقافية الإنسانية العالمية. أما الهوية الجزئية، فإنها انتقائية، في علاقتها بالتاريخ؛ كونها تختار منه، ما يعزز عزلتها وانغلاقها، ويرسخ حضور كيانيّتها.

الهوية الجامعة، في ظل الدولة المدنية هي بطبيعتها تجريبية نقدية؛ لأنها تؤمن بالعلم الحق والعمل الحق، وكل شيء خاضع للتحليل والبرهان. ولذلك تتواصل عملية الكشف والنضال المعرفي؛ لخلق مستقبل أفضل للجميع. أما الهوية الجزئية، فإنها استقرائية؛ كونها تُخضع التاريخ لتفسيراتها الخاصة، المتكلسة والمتبلدة. أما علاقتها بالتفكيك، فإنها تعيش تماماً خارج هذه الدائرة. علمها في الأغلب، هو علم النصوص الجامدة، وعلاقتها بالاجتهاد علاقة عداء وخصومة. وهي لا تتورع عن الإفصاح عن عدائها الصريح للتاريخ ولرموزه وتجلياته.

وعلى هذا الأساس، فإن مشاريع فيدراليات الطوائف هي عودة إلى الخلف، ونكوص عن مشاريع التنوير والنهضة، وإعاقة للمشروع الوطني الجامع، وهو عنوان التطور والنماء، والقوة والقدرة على بناء الإنسان الجديد، وحماية الأمن والتصدي للعدوان.