آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:42 م

«السترات الصفراء».. هبّة أم ثورة جياع؟

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

ما حدث في العاصمة الفرنسية باريس، بالشانزلزيه قرب قوس النصر، في الأول من هذا الشهر ديسمبر/كانون الأول لم يكن مفاجئاً. فقد جاءت هذه الأحداث استجابة لدعوات أطلقتها حركة «السترات الصفراء»، ناشدت فيها الفرنسيين الخروج إلى الشوارع الرئيسية احتجاجاً على القرارات الاقتصادية التي أعلنها الرئيس ماكرون، والتي تضمنت زيادة في الضرائب، ضحاياها الرئيسيون هم المهمشون وأصحاب الدخول المتدنية. وقد أدى تمسك ماكرون بقراراته هذه، رغم الدعوات المتكررة التي أطلقها الفرنسيون، مطالبين إدارته بالتراجع عن هذه القرارات، إلى أن تصاحب الفوضى والتخريب والعنف، هذه الاحتجاجات، ما أدى إلى خروجها عن الحراك السلمي.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها المعدمون الفرنسيون إلى الشارع، احتجاجاً على أوضاعهم المزرية، فالتاريخ الفرنسي، حافل بالكثير من المحطات التي شهدت ثورات جوع، سواء تم التخطيط لتلك الثورات من قبل الجياع أنفسهم، أو من خلال أجندات لطبقات أخرى، زجت بهم في أتون معاركها، ومخططاتها.

محطات انتقال كبرى، في التاريخ الفرنسي، أخذت مكانها في شكل اندفاعات شعبية عنيفة، وشكل بعضها منعطفاً رئيسياً في التاريخ الإنساني. فالثورة الفرنسية عام 1789، التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة، والتي مثلت مصالح أرباب العمل، كانت في تمظهراتها ثورة جياع، انقضوا دون رحمة على سجن الباستيل. وقد كان أهم منجز لتلك الثورة، هو القضاء على الإقطاع، وشيوع مبدأ المواطنة، وأن الناس يولدون أحراراً، ومتساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات.

وكانت كمونة باريس عام 1871 محطة أخرى، في ثورات الجوع، مؤكدة أن مبدأ الحرية السياسية، حين يعزل عن الحقوق الاجتماعية، فإنه يكون أداة لتكريس الثروة، وزيادة مأساة المهمشين. وأن الحرية السياسية، تظل ناقصة إن لم تسند بمبدأ العدل الاجتماعي.

وقد تعزز مبدأ الربط بين الحرية السياسية والعدل الاجتماعي بالثورة الطلابية، التي عمت فرنسا عام 1968. وخلالها سيطر الطلاب على الجامعات والمصانع، وشهدت فرنسا إضرابات عامة واعتصامات كبرى، شاركت فيها الأحزاب والقوى السياسية المدنية. ولم تنته إلا بحل الجمعية الوطنية، والإعلان عن انتخابات برلمانية جديدة. وخلالها تداخلت المطالب والأهداف، من مطالب بتغيير في الأفكار والتقاليد، إلى مطالب نقابية واقتصادية، إلى احتجاجات ضد الظلم الاجتماعي. ولا تزال أحداث 1968 مثار سجالات وجدل حتى يومنا هذا.

إذن، فالاحتجاجات الراهنة، في فرنسا، تستند إلى موروث فكري كبير وعميق، عبر عن حضوره بجملة من الأفعال الاحتجاجية. ومن الصعب عزلها عن المسار التاريخي، لهذا البلد العريق، منذ اندلعت ثورته الكبرى، التي غيرت كثيراً، في الفكر السياسي، على مستوى العالم بأسره، وباتت محطة رئيسية في التاريخ الإنساني المعاصر.

وكما أكدت التجارب الكبرى التي أشرنا إليها، أن كل محطة جديدة، تحمل معها مخاض مرحلة جديدة، ينجز فيها الفرنسيون جملة من الأهداف، على طريق تعزيز المبادئ الرئيسية للثورة الفرنسية، فلن يكون بعيداً، أن تكون حركة «السترات الصفراء»، نقلة جديدة، في مسار التجربة السياسية الفرنسية، وأن تجبر إدارة الرئيس ماكرون، على إعادة النظر في القرارات الاقتصادية التي أصدرتها، لكي يعود الأمن والاستقرار والوئام بين الفرنسيين.

وتعيدنا هذه الأحداث مرة أخرى، إلى النظام الرأسمالي، وتطوره، وكيف تمكن من إعادة إنتاج ذاته، بما أسهم في تخفيف حدة الصراع الاجتماعي في البلدان الصناعية الكبرى. فهذا النظام استند بالأساس إلى مبدأ «دعه يعمل»، لآدم سميث، لكن التطور التاريخي، أكد أن سيادة مبدأ التنافس، وانفلاته، سيؤدي إلى تأجيج الصراع في مجتمعات البلدان الصناعية، فكان البديل عن ذلك هو ما عرف بالنظرية الكنزية.

وخلاصة هذه النظرية، أن استمرار استقرار المجتمع والسوق، يكمن في وفرة المال، بما يضمن تلبية الاحتياجات الأساسية للناس. إن انعدام القدرة لدى غالبية أفراد المجتمع، على تلبية الاحتياجات الأساسية، من شأنه أن يلحق الضرر بالطبقة المتوسطة وصغار التجار، بما يرفع من مستوى الفقر، ويسهم في ارتفاع مستوى الجريمة. وكان ذلك هو البوابة التي انطلقت منها نظرية دولة الرفاه.

في المجتمعات الرأسمالية، هناك تواز بين الفوضى الاقتصادية والحركة الاحتجاجية، فكلما اقترب النظام الرأسمالي، من نظرية سميث في «دعه يعمل»، تضاعفت أعداد المهمشين والجياع، وكلما ابتعدت الدولة عن ذلك واقتربت من دولة الرفاه، حيث الضمان الاجتماعي، ومقابلة الاستحقاقات الأساسية للناس، ساد الوئام، وقل مستوى الجريمة، وتحقق الأمن والاستقرار.

المعضلة التي تعاني منها المجتمعات الرأسمالية، أن موضوع الحرية السياسية، هو أمر مكفول دستورياً، لكن قضية العدل الاجتماعي هي رهن للبرامج الانتخابية، وليست شيئاً ينص عليه الدستور، وتفصل أساسياته. وللأسف فإن بروزه وانكماشه، خاضع لأوضاع اقتصادية كالانكماش والتضخم، وهي أمور ليست لها علاقة مباشرة، بمصالح المهمشين والجياع.

المجتمعات الإنسانية، ومنها مجتمعاتنا العربية، وأحزابها ونخبها السياسية، بحاجة إلى إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية. لا بد من الربط بين الاستحقاقات السياسية والعدل الاجتماعي. لقد مرت أمتنا بمرحلة غلبت فيه شعار الحرية السياسية، ومن ثم باتت هذه الفكرة، في حقبتي الخمسينات والستينات شبهة، وعاد بريقها مرة أخرى، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وكانت المعضلة هي غياب الربط بين فكرتين نبيلتين، لا ينبغي أن تكونا في وضع التقابل، بل التكامل. وما لم يتحقق هذا الربط، فسوف تتواصل الفوضى والحركات الاحتجاجية إلى ما لا نهاية.