وهم اليقين
قبل عامين قمت بزيارة إلى القاهرة، وكان من ضمن أولويات برنامجي لهذه الزيارة، الذهاب إلى شارع طلعت حرب في وسط القاهرة، حيث توجد فيه دور النشر والمكتبات وباعة الكتب على الأرصفة. وقفت عند أحد باعة الكتب على الأرصفة، فأخذت أقلب وأتصفح تلك الكتب المعروضة على الرصيف، لعلي أجد عنوانا أو كتابا يستهويني أو يلامس اهتماماتي المعرفية، فلم أجد لديه، فحاولت الانصراف، فإذا به يعرض علي كتيبا لا تتجاوز صفحاته الخمسين، وقال: هذا من أكثر الكتيبات مبيعا، وقيمته زهيدة لا تتجاوز العشرين جنيه، فأخذته، فإذا هو مجموعة من الحكايات مكتوبة باللهجة المصرية الدارجة، فقرأته حال وصولي الفندق، فلم أجد فيه ما يروي الظمأ، أو يبعث على الاحتفاظ به، غير حكاية واحدة، وهي وهم الخيل، إذ توقفت عندها، وملخصها: إن ثمة قرية نائية تستخدم أبا أيوب أي الجمل في مواصلاتها وتنقلاتها، وليس لدى سكانها معرفة ببقية وسائل النقل آنذاك كالحمير والخيول ونحو ذلك، فقدم أحد تجار الحمير إليها وباعهم مجموعة كبيرة من الحمير على أنها خيول بأسعار باهظة. وبعد فترة زمنية رجع أحد سكانها بعد غيبة طويلة، فرأى أفراد القرية يستخدمون الحمير ولكن يطلقون عليها اسم الخيل. فحاول جاهدا واستمات لتغيير هذا المفهوم، ولكن جميع جهوده ذهبت أدراج الرياح وباءت في الفشل، لأن هذا المفهوم قد تجذر في نفوسهم وترسخ في عقولهم.
فهذه الحكاية على بساطاتها في تركيبتها وبنائها اللغوي، بيد أن فلسفة عميقة ثاوية في أحشائها، وهي صعوبة زحزحة المظنونات والمشكوكات والموهومات بعد ترسخها في الأذهان على أنها قطعيات ويقينيات ومسلمات.
لو حاولنا إسقاط هذه الحكاية على واقعنا المعرفي الفكري الديني، للمسنا بأن ثمة خطاب ديني يتموضع في دائرة إيديولوجيا وهم اليقين.
أصحاب هذا الخطاب يقدمون منظومة معرفية متشكلة من محتملات الظنيات أو موهومات أو مشكوكات على أنها مقولات يقينية وقطعية الثبوت والدلالة.
ولتقوية هذه المنظومة يعمدون إلى استخدام سلاح فاعل قائم على تأجيج العواطف لتعزيز وهم اليقين. حيث يتذرعون أن المساس بهذه المحتملات بعد ترسيخها في الأذهان على أنها مسلمات قطعية هو مساس بالدين وتقويض لأركانه.
وصناعة وهم اليقين يحتاج إلى بيئة تتسم بالتبعية والامتثال الأعمى والتقليد والمحاكاة، لا مكان فيها للتفكير والتساؤل أو الرؤى القائمة على العقل والعقلانية. أصحاب هذه الصناعة يسيرون قدما نحو تحجيم خيارات الناس المعرفية، فيضعونهم أمام خيار وحيد يتيم ألا وهو وهم القطع واليقين. ولذا تجدهم يشنون حرب شعواء وقتل معنوي لكل من يمتلك مبادرة عقلائية قائمة على التفكير والتنقيح والبحث لا التقليد والمحاكاة.
لابد أن نعرف بأننا أمام جيل متمرد فكريا يرفض الانسياق وراء خطاب أحادي منغلق قائم على وهم اليقين، متمترس حول بناء معرفي تمتزج فيه الغيبيات والأسطورة بجذوة العاطفة الدينية الملتهبة في أعماق النفوس. ولئلا نخسر هذا الجيل لابد أن يقدم له منظومة معرفية دينية منقحة تفصل بين اليقينيات الثابتة التي هي موضع اتفاق ووفاق والمظنونات الموهومة. وعلى هذا بات من المحتم على أصحاب الشأن في تشكيل المنظومة المعرفية الدينية مواجهة هذا التحدي بكل شجاعة وإخلاص وعمل حثيث على بناء منظومة مرتكزة على اليقينيات الثابتة والوقوف في وجه كل محاولة تعمل على تحويل المشكوكات والموهومات إلى يقينيات ومسلمات.
أخيرا أقول: لابد لنا من تلقيح عقولنا بمضاد يواجه فيروس وهم اليقين والقطع.