أصحاب المَجالِس «3» المنافسات والصرف بالحرام..
منهاج السالك الحسيني
الجزء الثاني: توصيات أصحاب المآتم وأولياء المَجالِس/ الوقفة الثالثة.
● قلنا أن أولها: ما يَلزمهم مِن ضابطةٍ في أنفُسهم:
حيث يتوجب على أصحاب المآتم وأولياء المَجالس المكرَّمين آدابٌ ضرورية؛ تَقدَّم منها النقاط «أ» و«ب» و«ت» و«ث»، وفيما يلي:
● ج. المنافسات:
استحضار المنافَسة التي تُطَوِّر وتُقَدِّم وتُؤَثِّر في ارتقاء المجتمَع وتعظيم الشعائر بإبراز الأداء المتكامل قدر الإمكان وتقديم أُسْوة حَسنة لأصحاب المَجالس الأخرى وتَبتعِد عن الحَط من أداء العاملِين وعطاءات الآخرين وأقدارهم وتَترفع عن التّصَيُّد والتسقيط والهدم وتَتجنب ما تَقَدَّم في عنوان ’’الخَطَر الخَفي‘‘، هذه المنافسة شريفة حميدة مطلوبة؛ والله عز وجل يحب أنه إذا عَمل أحدٌ عملاً أن يتقنهُ إتقانَ القياس إلى أداء الغَيْر وأداء نفْسه وأدائه في ساحة العمل قِبال الآخرين تنشيطاً وتحفيزاً..؛ لذا امتَدَح تَقدَّستْ أسماؤه أصحاب هذا الفعل الطيّب وكَرَّر ذِكرهم في مَوضعٍ واحد وجعَلهم في أسمى الدرجات العُليا حيث يقول عز وجل ﴿والسابقونَ السابقون * أُولَئِكَ المُقَرَّبون * في جَنّاتِ النَّعيم﴾ وجاء منه الأمر سبحانه أنِ ﴿استَبِقوا الخَيْرات﴾..
إنّ ’’الله‘‘ تعالى، بصِفته الصَّنيع، دائماً يَستبِق الخَيْر ودائماً في كل ميدان سابقٌ إلى الكمال التام والعطاء الكامل وإن كان السَّبْق يَتقوَّم بأكثر من واحد حتى يتحقق مفهومه، وهو عزَّ وجل لا نَظير له بل ويستحيل مُجَرَّد تصوير مستبِقٍ معه ولو تصويراً على مستوى الثُّبوتِ والإمكان فضلاً عن مستوى الإثبات والتحقق، إلا أنّه مع ذلك سبحانه دائماً سابِقٌ لكل خير وتام العطاء وبديع الصنيعِ مِن حيث هو حكيمٌ يَرُومُ الخير ويحبه والفَيضُ لازِمٌ غير مُنْفَكٍ عن ذاته الكريمة، و’’الإنسان‘‘ المِثالي هو شعاعُ ومَظْهرُ مَظاهِرِ ذلك الجبروت القدسي الفاخر، فلا يَليق به ليَكون مِثاليّاً بَيْن أَقْرانه إلا أن يَكون مِثالاً لجَمال الصِّفة الإلهية التي أفاضت وُجُوده بنَفْخٍ مِن رُوحِهِ المُطْلَقة عز وجل وتَجَلّياً لكمالات صانعه الكامل تَنطبع فيه وتبرز أمام نَواظر العالَمين؛ فيَكون شَبهاً ومَثَلاً له سابقاً للخيْرات ساعياً إلى السَّبْقِ فيها «عبدي أطِعني تَكُن مَثَلي» عبدي استَبِق الخيرات تَكُن من المقرَّبين استَبِق الخيرات تكُن لك جنات النعيم، ولا خير كخير نشْر العِلم وفتْحِ مَجالس التعليم والفضيلة؛ فإنه بالعِلم تُعرَف الحقائق وتُعْمَر الأرض وتعم النعمة ويُوَطَّدُ المَفاز.
● د. إظهار التأثر والأثر الشخصي:
بالحزن والكآبة والابتعاد عن مَظاهر الفرح والسرور والبهجة في أيام المصيبة، والعكس بالعكس في أيام الأفراح، فيَكون وَلِيُّ المَجلس هاشّاً باشّاً؛ يُشْعر الجميع بحالة من التّغَيُّر. كل هذا ينبغي لصاحب المجلس التحلي به من حيث ينبغي للمُوالِين العِناية والتوقف هذه الأيام عن كل ما مِن شأنه التعارض مع ذلك وأن يَكونوا نظراً لمَوْقعيّتهم ومهمتهم عنصراً مؤَثِّراً في الحاضرين عندهم ’’شعوراً‘‘ و’’مَظْهَراً‘‘؛ فإنّهم جزء لا يتجزأ من الأثر، سلباً أو إيجاباً، بل أثرهم كثيراً ما يَكون في الحاضرين أكبر مِن أثر عموم المستمِع.
افعلْ ذلك صادقاً ولو مَظهريّاً؛ فإنه أُثِرَ عنهم صلوات الله وسلامه عليهم قولهم إن لم تَستطع البُكاء تَباكَ، وردَتْ بذلك النصوص الكثيرة، مِن طُرُق السُّنة والشيعة؛ قال أبو عبد الله الصادق عليه الصلاة والسلام «إن لم يجئك البكاء فتباكَ، فإن خَرج منك مِثل رأس الذُّباب فبَخٍ بَخ». وفي القرآن روى إخوتنا السُّنّة عن رسول الله ﷺ قوله «اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تَبكوا فتباكوا».
إنّ مجاهَدة النفس بالتباكي تَطَبّعاً عند سَماعِ الذِّكْر والوعظ، يفيد لبلوغ رِقّة القلب وذرْوتِها؛ ومن ثم يصير البكاء طبعاً. هذا الفعل محمودٌ كثيراً حتى قال تعالى ﴿ويَخِرُّونَ لِلأَذْقانِ يَبكونَ ويَزيدُهُم خُشوعا﴾، و﴿إذا تُتْلَى علَيهِم آياتُ الرحمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وبُكِيّا﴾؛ افعلْ ذلك في الخَلْوة وفي العلَن؛ أمّا الخَلوة فقد ورد مِن بيْنِ السبعة الذين يظلهم الله في ظله: «ورجلٌ ذَكر الله خالياً ففاضت عَيْناه»..، وأمّا في العلن فإنّك تُشْعِر نفْسك بذلك وتروضها عليه وتَحمل الآخرين إليه، والدال على الخير كفاعله. كذا نفْس الحال في مَواضع الفَرَحِ والسرور. وليس هذا من الرِّياء ولا خلاف الإخلاص؛ والسِّرُّ في عدم كونه من الرياء ولا خلاف الإخلاص لأنه متوافق الظاهر مع الباطن، والغرض فيه نبيلٌ والنِّيّة صادقةٌ صالحة؛ فهو من الأمثلة الجيِّدة لبَيان حدِّ الرِّياء ومفهومِه المتقدِّم عليك بيانُه.
● ع. تحميل النفس عن قدرتها:
فالبعض قد يُحَمِّل نفسه مَشَقّةً خارجة عن طاقته ولو لاحِقاً، وهذا قد يَحصل تارة مِن حقِّه الخاص وأخرى من حقِّ الآخرين الخارج عن مالكيّته الشخصيّة؛ فمثلاً قد البعض يَقترض المال لإعداد وإقامة مجلس للإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ويتأخر في ذات الوقت - حاليّاً أو مستقبلياً - بسداد دينه والدائن بحاجة لماله ولديه ارتباطاته أو لا يجيزه بالتأخير؛ فهل تَجد أنّ الإمام يَرضى بذلك؟
هل يُمْکِن التقرب لله بِنَکْثِ العهد وسوء معاملة الحق والذِّمّة..؟
بل البعض قد يَكون من الطبقة المحتاجة ويَصرف أمواله المحتاج لها حاجةً ماسة، يصرفها مثلاً في سبيل إحياء شهر محرم، ويُصِر على ذلك لأنه يَظن أن صرفه في هذا الطريق هو خير له وسوف يُعَوّضه الله سبحانه وتعالى ومن ثم في أيامه القادمة تجده يَتطلب من الناس وبيت المال ويُثْقِل كاهِل الآخرين..، لكن في الحقيقة الإمام عليه الصلاة والسلام لا يرضى بذلك، لا يرضى بصرف ما يحتاجه صاحبه في قُوْته وغير قوْته من الأمور الضرورية في الحياة كالعلاج وغيره ما دام سيصير إلى هكذا حال، وقد يَكون له زوجة وعِيال؛ فيجعلهم في ضَنكٍ وعوزٍ للآخرين! وإذا لم يَجد من يسنده تَذَمَّر وتمَرَّد بينما هو بسوء اختياره مَن تَسبَّب لنفسه ولعِياله بالحاصل.
لا ريب أن الله تعالى عند حُسن ظن عبده به؛ إن ظَنَّ به خيراً كان له خيرا، وإن ظَنَّ به شراً كان له شرا، هكذا ورد في الأخبار الشريفة، وهو الحَق، ولا ريب أيضاً أنه تعالى أكرم منا ويعاملنا على نوايانا الحسنة بالحُسنى وينَمّي ما نقدمه في سبيله، ينميه أضعافاً مضاعفة، وهو المَلِك الحقيقي وبِيَده كل الأسباب وله الامتداد التام في كل مَناحي الوجود قد ضَرَب لنا مَثَل الحَبّة والسَّنابل، ولا ريب كذا أن الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام لهم شفاعة مُشَفَّعة عنده تعالى ولا يَتخلون عمّن يُضَحّي من أجل أهدافهم الإلهية السامية، ومَن يَتقدَّم نحوهم بقَدَم يَتقدَّمون نحوه أقداماً متضاعفة.
لكنه عز وجل أعطانا العقل الذي هو أَعظم مَلَكة في الوجود وهو سبحانه أمَرَنا على لسانهم صلوات الله وسلامه عليهم بالعمل بالأسباب الظاهرية في امتداد ضرورة الإيمان بالغيب الذي هو قِمّة الإيمان به تَقدَّسَتْ أسماؤه، ألم يَقُل في كتابه العزيز: ﴿ولا تَبْسُطْ يَدَكَ كُلَّ البَسْطِ فتَقْعُدَ مَلُوماً مَحسُورا﴾؟ لا تفقر نفسك؟ لا تُعَرِّضها للإفلاس ثم تَكُن حاسراً فارغَ اليد تمد يدك لعطايا الآخرين وتُعَرِّضها للمَلامة والحسرة..! بلَى، قال لا تَكن حريصاً فتَلُوم نفسك على خُسران الآخرة وتوفيقات الله الدنيوية ﴿ولا تَجْعلْ يَدَكَ مَغلولةً إلى عُنُقِكَ فتَقْعُدَ مَلُوماً مَحسُورا * إنّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ إنّهُ كانَ بعِبادِهِ خَبيراً بَصيرا﴾، بلَى، وقال:
﴿مَن ذا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فيضاعِفَهُ لهُ أضعافاً كثيرة﴾ ﴿فيُضاعِفَهُ له ولهُ أَجْرٌ كَريم﴾ ﴿إنَّ المُصَّدِّقِينَ والمُصَّدِّقاتِ وأَقرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لهُم ولهُم أَجْرٌ كَريم﴾ ﴿إنْ تُقْرِضوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لكُم ويَغفِرْ لكُم واللهُ شَكورٌ حَليم﴾ ﴿ومَا لكُم أَلّا تُنفِقوا في سَبِيلِ اللهِ وللهِ مِيراثُ السماواتِ والأرض﴾ ﴿ومَا أَنفَقتُم مِّن شيءٍ فهُوَ يُخْلِفُهُ وهُوَ خَيْرُ الرازقِين﴾..، فربما ذاك البخيل الحريص بحُجّة أنه يريد حفظ المال لعِياله ومستقبلهم.. هو الذي يَسْقط ويَخسر كل ما يَمْلكه في عاصفة تافِهة وحادثة لا قيمة لها فَقَلَّبَ كَفَّيه حسرةً على ما فَوَّتَ من الصالحات ﴿ومَن يُوْقَ شُحَّ نفْسِهِ فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحون﴾..
لكنه هو أيضاً قال ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِه﴾؛ فهذه الآية وإن كان فيها حَثٌّ على الإنفاق وتَأمر به إلا أنها أَخَذَتِ الوُسْع أصلاً فيه، والوُسْعُ والسَّعة والوُسْعة الجِدَةُ والقُوّة والطاقة، حتى قال سبحانه ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا وُسْعَها﴾، بينما هذا الذي تَفعله ليس من سعتك المحتمَلة، هذا فوق طاقتك المتَحمَّلة، هذا ليس إقراضاً حَسناً لله تعالى حتى يضاعفه ويَشْكره ويُخْلِفه أجراً كريماً، فإنه ربما لا يَتقبله أصلاً، أنت تَقترض وتؤخِّر مال الناس عن حين الاستيفاء، تفعل ذلك باسم الله واسم أئمته الطاهرين واسم الدِّين! أنت تُعَرِّض عِيالك للطَّلَب والآلام وصُنُوفِ المِحَن وتذلِّل رقابهم للآخرين وتضر كرامتهم، أنت تضر بنفسك الضرر الذي لا تتحمله، الضرر الذي قد يوصلك لكره الناس والتَّفَلُّت من المسؤولية وقد التَّفَلُّت مستقبَلاً حتى من الدَّين والدِّين، لا يكلفك الله حَرَجاً أو مَشَقّة من هذا القبيل وإن كان يَرى منك هذا الإخلاص العظيم وإن كان النبي وأئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم يبعثوننا على السخاء ويحركوننا نحو ’’الإيثار‘‘ إلا أنّ الإيثار ليس هكذا.
الإيثار لا يَكون بالنحو الذي يُصَيِّرك لحالة غير مودودة دُون عِلّة مُصَحِّحة، الإيثار لابُدّ أن يؤتَى بالصورة التي تنسجم مع مرادات الله تعالى وأوامره لا بالأداء الذي يُوضَع في مَلْحَمة نَواهيه؛ افْطنْ؛ إنّ صاحب الحق أولى بحقه، وسد رَمَق أولادك وأهلك وحِفظك للكرامة وثَبات دِينك أَوجبُ عليك، كل هذا بإذعان العقل ونَصِّ الشرع.
● إشكالية: «تمثيل المعصومين في سبيل تحميل النفس».
لا تَقُل أنا أُمَثِّل ما فعله الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام في كربلاء حيث ضحى بنفسه وعياله وأَعِزّته، أو أنك تَقتدي ما فعله الإمام علي والسيدة الزهراء سلام الله عليهما حيث تَصَدَّقا على المِسكين واليتيم والأَسير وعَرَّضا نفسهما الشريفة وعيالهما للجوع ثلاثة أيام والقرآن أَثنى على ذلك؛ فإنّ هذا القَول منك لا يَصِح؛ ذلك لأنّ الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام أولاً له تكاليف خاصة تماماً كما أن صلاة الليل واجبة على النبي ﷺ مستحبة بالنسبة لنا فكذلك هنالك تكاليف تتوجه للمعصوم لا تتوجه لعموم المكلَّفين.
لاحِظْ؛ لا أقول كل ما فعله سلام الله عليه هو خارج عن تكليف عموم المكلَّفين؛ إنما أعني هذه الحالة الخاصّة الطارئة التي هي فوق تكليف الإنسان العادي، ولو على رأي بعض أهل العِلم، وإن كان في ذلك كلام ولا نَتوافق مع هذا الرأي؛ إذ غاية ما يقتضيه التكليف في مِثل حال الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام بالنسبة لباقي الناس هو مراعاة الظروف المناسِبة مع تَوجُّه ذلك لعامّة المكلَّفين مِثْلهم مِثل الإمام صلوات الله وسلامه عليه الذي إنما هو أُسْوَة وقدوة لا مجرَّد رَمْزٍ وشِعار، وما عَدا ذلك مما يَختَص به المعصوم - كمثال وجوب صلاة الليل - فهو حالة محدودة جداً ونادرة واختصاصه بالمعصوم يستفاد من الدليل الخاص المفيد لذلك إفادة واضحة؛ أما غير ذلك فهو يستقيم على قاعدة عموم وشمول التكاليف للجميع حسب الضوابط، بينما هذا الاختصاص مفقود في مِثل حادثة كربلاء المُعَظَّمة، بل الأدلة العقلية والنَّقلية وَفِيْرة على نفي الاختصاص.
ثانياً - وهو الوجيه للاستدلال على جميع الآراء - فإنّ تضحيات الإمام الحسين والإمام علي وسيدة نساء العالَمين عليهم الصلاة والسلام لم يُؤْثِروا فِيها على أنفُسِهم بمال الغَير وتأخير الدَّين عن استيفاء صاحبه له في موعده عن غير إذنه وتمام رضاه، ولا يؤْثِرون على أنفسهم مع إقْحامِها في التَّفَلُّت والإذلال وإثقال كَواهل الآخرين بهم، ولم يُؤْثِروا على أنفسهم بمالهم في ظل تجويع وإيلام أولادهم دون رضىً منهم وقَهْراً لهم وعليهم ومِن ثم تَصييرهم للمِحَن والمَخاطر المَصيرية؛ لذا امتَدَح القرآن تلك الحادثة العظيمة وجَعَلَها أُسْوة خالدة تَدِكُّ نواقِيس الإيثار بأشرف مَراتبه العالية لأنها جاءت ضِمن ممارَسة تامة كاملة من جميع الجهات؛ فأنت إن كنت تستطيع تحقيق هذه الشرائط فهذا طريق الإيثار أمامك، ارتَقِ مَراتبه القُدسيّة ولا تَرْتَبِك ولا تَتردد لحظة.
واعلمْ أيها العزيز أنّه في شرعنا الحكيم الحَنيف الذي لم يَترك شاردة أو واردة إلا وَضَعَ لها قانوناً واضحاً منتظِماً، فإنّ فيه لِصرفِك أموالك أولويات وطَبَقات مُرَتَّبة وفْق مَراتب لا يجوز تقديم إحداها على الأخرى تأتيك إن شاء الله تعالى في قِسم توصىات المتبرِّعين في ترتيب أولويات وطبقات الصرف.
● ممارسة الضغوط على الآخرين:
من هذا اتضح لك أيضاً أنّ من يمارِس ضغوطاً على الناس للبَذْل والتَّبَرع لإقامة مجلسٍ، ويُعَرِّضهم للإحراج والأقاويل..؛ فهو إنما يأتي فعلاً مذموماً غير مَسُوغ.
أما لو فرَضْنا كان المجتمَع بحاجة ماسة لمَجالس التعليم وهي غائبة عنه لا يَتصدى أحدٌ أو مقدارٌ يكفي بحاجة المجتمَع بإقامتها وتجد أن المكلَّفِين أَهمَلوا مسؤوليتهم الكِفائيَّة هذه الواجبة، فعَرَّضْتَ نفسك للضَّنَك والعُسر بوضعك ما بذات يمينك في هذا السبيل امتثالاً للواجب أو حَرَّضتَ الآخرين على الدفع بل وأحرجتَهم إحراج المتمنِّعِين عن الواجبات الشرعية التي آمنوا بها؛ فأنت مُحِق، ولك مَرتبة ومحبوبية عالية جداً عند الله تعالى يُباهي فيها بك ملائكته، شريطة أن لا يَكون المال مأخوذاً من الغير بإذنه وبقي عندك بغير رضاه وشَريطة أن لا توصل أولادك أو أَنفُس أو أولاد الآخرين للهَلاك أو تَدفَعهم مضطرين للسَّرِقة أو غيرها من المحرَّمات، لكن مادامت الضرورة غير متحققة وهنالك بحمد الله تعالى الكم الكافي من العطاء بل الوَفير فلا داعي للوقوع في أسباب المآزق والأزمات..
● م. صرف المال على المجلس من الحرام:
وأَشَد من ذلك أن البعض قد يصرف المال من الحرام، أو يَصرف من المال المختلط بمال الغَير الخارج كُلِّيّاً عن جواز تَصَرُّفِه لا كما في ’’الاقتراض مع التأخير‘‘ الذي هو مُجاز التَّصَرّف من البداية، أو يصرف من المال المختلط بالشُّبْهة قبل تخليصه منها، أو لا يزَكي ماله الزكوات الشرعية الواجبة المخصوصة، يريد أن يَتقرب لله بذلك أو بتقديم الخِدمة على أرض مغصوبة..! فأي إلهٍ ذاك الذي يَقبل هذا الفعل؟! وأي إمامٍ ذاك الذي يَنظر إليه ويَشفع له به؟!
ثمَّ إنه قد سَبَقَ العِلم في توصيات المستمِعِين، ووَجب له التأكيدُ هنا، أن هذا لا يعني الرِّيبة في الآخرين ومَكاسبهم والشك بهم، فمتى لم يَظهَر لك شيء يقيني أو مبررات مُشككة متولدة من مبررات منطقية فلا تُرَتِّب أثراً سلبياً وإلا كان لُؤْماً وكنت مُذْنباً مستحِقاً من الله تعالى للخِذْلان والخِزيِ والعقوبة؛ قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: «ليس مِن العَدل القضاء على الثِّقة بالظن»؛ يعني بذلك سلام الله عليه الظن العفوي الناشيء من مبررات غير عُقَلائيّة.
فما بالك بمن يَحضر مجلس الغني ويستفيد من عطائه ومِنَحِ كَدِّه ثم يَقع فيه ويكيل له التُّهَم يُعَرِّض بطهارة ماله ويشِينُ قدره ويفسد بذْله؛ ثم يَعود بذلك على نفسه والمجتمَع بتهجير الفضائل وإعدام الفِعال الحميدة.. فيتسبب بإشاعة الفَساد ونزولُ حِمَمِ البلايا والرَّزايا..
وعلى العكس؛ فإنّ هنالك من أصفياء النفوس الطيبين من إذا رأى خيراً وَدَّ لصاحبه البركة والمَزيد، وذَكر إحسانه وأشاع فَضيلته وشجَّعه حاضراً وغائباً وحَثَّ على مَحْمَدَتِه وأَوقَع في النفوس حماسةً وشوقاً للتقديم بل والسَّبْق..
هذا تمام الكلام في الآداب الضرورية التي تتوجب على أصحاب المآتم وأولياء المَجالس المكرَّمين في طَوْر ’’أول المسؤوليات‘‘ التي تَلزمهم، والتي عَنونّاها ب’’ما يَلزَم من ضابطة أنفُسهم‘‘.
● ثاني المسؤوليات: ما يَلزَم من ضوابط في آلية الأداء:
أوقات التفويج. التنظيمات. سد الطرقات وإعاقة السبيل. المسألة الأمنية. ما يتعلق بهم من حيث الخُطَباء وأدائهم..
عناوين تأتي إن شاء الله تعالى في الوقفتين القادمتين.