المحموص: الأصل المنهوب
لا يمكن أن تجتر التاريخ هكذا وبتأويلٍ لا ينسجم مع حركة تاريخه الاجتماعي..
فهل يُعقل أن تكتب عن طبقٍ أخذت به الشهرة بعيداً عن منشأه وقدور طبخته الأولى!
هلا ساءلت نفسك عن تلك النار التي اشتعلت بفاقة اليد، وطهارتها الأولى، وقبسها الحزين؟
لا يجب أن تقرأ وتكتب سيرة المجتمعات بعيداً عن واقعها الإقتصادي، وحسّيتها، وانسجامها الاجتماعي. فطبق أو عيش المحموص، لم يكن بهكذا قدسية في التناول والصيغة والرمز، ولم يكن بخصوصية مذهبية في البعد والترميز بمكان يراد له التفرد في غفلةٍ من التوثيق والكتابة.
فعيش المحموص طبق اقتصادي بحري بامتياز. كل مكوناته بعيدة عن البذخ والتبذير والإسراف. ولم تكن تلك المخيّلة التي اهتدت الى مكوناته، سوى روح طاهرة حسيرة، مجلّلة بالسواد والنحيب، ودمعة جارية مالحة بالماء والبحر.
هكذا اهتدت بدمعتها غاسلة الخدين إلى طبق بسيط غير مُكلفٍ من البصل وزيت الشحم والليمون اليابس الأسود، وما فاض به البحر من أسماكٍ وربيان. فار التنور واشتعلت قدور الطبخ بروائحها الطاهرة الزاكية من البيوت البسيطة، المشبعة بروائح البحر. وفاضت ببركاتها، وتغير لون العيش والصواني بذاك اللون الباكي بصبغته المائلة للسواد في قدوره، حتى شبعت به البطون.
هكذا يجب أن تُكتب سيرة هذا الطبق الذي تلاقفته الأيدي في لحظةٍ طائشة من التحولات، لترفعه عالياً على بيارقها التي تباهت بها وسوادها، قبل أن تسأل وتتساءل عن تلك البيارق المطوية بطهارتها منذ أعوامٍ ونسيانٍ، وقبل اشتعال البيارق والأسنات.
ما كان يجب على باحثٍ أو أمينٍ على كتابة السّير الاجتماعية، أن يتغافل عن التحولات السريعة والطفرات الاقتصادية، والنسيان والتوثيق، وقلّة السرد والكتابة، أن يرمي رميته وتأولاته، من غير أن يتساءل عن سر هذا الطبق الذي تلاقفته الأيدي ومكوناته ودخان ناره الأولى.
هل تغافل بعمدٍ أو تعميمٍ لجغرافية المهن؟
نعم تفردت جزيرة تاروت بهذا العيش، لكنهم خجلوا أن يقولوا أنه في شرقي هذه الجزيرة، وقرب البحر، اشتعلت قدور طبخ عيش المحموص، بسنابسيته البحرية، وكرم يدها المبسوطة.