العودة إلى أحضان الدين والسبيل إلى استعادة الثقة به
عانت الأمة موجات إلحادية وأفكار تغريبية من داخل الأمة وخارجها، ولعلى أشرسها ما كان من الداخل. كثير من المفكرين والمثقفين انبهروا بالحضارة الغربية فأخذوها بكلها، وتنكروا لدينهم وحضارتهم بل وصوبوا سهام النقد وحضوا على الهجر. خلاف الأمم الآسيوية التي أخذت من الغرب ما يفيدها مع الحفاظ على مبادئها وحضارتها. إلا أن كثيرًا منهم اكتشفوا خطأهم مؤخرًا وعادو إلى أحضان الدين. هذه الزاوية يتناولها سماحة الشيخ بالتفصيل في محاضرته العاشورائية الخامسة لموسم عاشوراء 1440 هـ تحت عنوان: القلق على الدين من الخارج أم الداخل؟
المحور الأول: استعادة الثقة بالدين.
من الطبيعي أن تهتم كل أمة بالحفاظ على المبادئ والقيم التي تؤمن بها، وأن تقلق من استهدافها وتعتبر ذلك خطرًا يهدد حضارتها ووجودها.
الدين الإسلامي يشكل القيمة الكبرى للأمة للإسلامية. وأي استهداف له يشكل تهديدًا لها. والقلق عليه له مصدران: داخلي، وخارجي. والخارجي هو ما يكون من ديانات وحضارات أخرى. «ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا»، إما حسدًا، أو لمصالح ذاتية كالهيمنة، أو شق الصف للإضعاف، أو الحد من المنافسة لضمان النفوذ.
أما القلق الذي يكون من الداخل، فهو الاستهداف الداخلي لأبناء الأمة. ومن أجلى صوره انتشار الأفكار المناوئة للدين وحث أبناء الأمة على ترك الدين وإعلان إلحادهم، أو التشكيك فيه. وقد واجهت الأمة هذه الموجة العارمة منذ القرن العشرين. كان ذلك صدى لما تردد في أوروبا والخلاف الحاد بين الكنيسة والعلم. حيث مارست الكنيسة سطوتها على العلم، والرأي الآخر. خلّف ردة فعل على الدين وأوجد تيارًا ثقافيًا مناوئًا للدين. وترددت عندهم مقولات: موت الدين، وموت الإله.
بعض المثقفين والمفكرين من أبناء الأمة الإسلامية انبهروا بهذا الحالة. وبما عندهم من تطور وتحضر يفوق بلادهم بمئات السنين. فكان خطأ فادح وخطير منهم أن عززوا روح الهزيمة والاستسلام في شعوب الأمة، وكانوا تبعًا للآخر.
المجتمعات الآسيوية الأخرى كاليابان والصين والهند استفادوا من الحضارة الغربية والأوروبية دون أن يتركوا قيمهم ومبادئهم. غاندي لم يصطدم بما في الهند من أديان وثقافات بل ابتكر مشروعًا للنهضة مع الحفاظ على ثقافتهم وحضارتهم. والغربيون الآن يعترفون بأن الحضارة في آسيا تقابل الحضارة الغربية، وأن نجاحهم نتاج ثقافتهم الآسيوية. فلديهم ثقة بالنفس واعتزاز بحضارتهم ومبادئهم.
بعض مثقفينا ومفكرينا اتخذوا مسارًا آخر. تنكروا لهويتهم وحضارتهم، وبشروا بحضارات الغرب. ومنهم:
- الدكتور المصري إسماعيل أدهم صاحب كتاب لماذا أنا ملحد؟ بشّر بالتقدم والتحضر عن طريق ترك الإسلام وتقليد الغرب.
- جلال العظم. كتب بفرح عن نكبة حزيران وقال إنها تبشر بانهيار الدين.
- وفي العراق كان هناك مد هائل للملحدين ومن مقولاتهم: الله في قفص الاتهام.
إلى أحضان الدين:
لكن الحالة لم تستمر طويلًا. كثير من المثقفين الذين انبهروا بالغرب تراجعوا وأعلنوا خطأهم. ومنهم:
المفكر الإيراني جلال آل أحمد. كان شيوعيًا، ثم غادرهم وعاد للدين وأصبح من المفكرين الدينيين وكتب عن الابتلاء بتقليد الغرب والغزو الفكري.
إسماعيل مظهر من مصر. دعا للدارونية، وأنشأ مجلة العصور مع مجموعة من المثقفين. نقد الفكر الديني بصراحة في مجلته، وقال إن الله فكرة خلقناها. لكنه بعد سنوات أوقف مجلته وتراجع وعاد للدين.
الفيلسوف المصري عبدالرحمن بدوي. قامة فكرية له أكثر من 150 كتابًا علميًا. بدأ وجوديًا في أوروبا، ومواقفه عنيفة ضد الدين. ثم بدأ يتراجع وتبنى الدفاع عن الإسلام وكتب عن القرآن والنبي. وعن خدمة المستشرقين للاستعمار، وندم لمعاداته الإسلام أكثر من نصف قرن.
والقائمة تطول وقد ألف الكاتب هاني نسيرة كتابًا بهذا الصدد بعنوان الحنين إلى السماء. والمفكر القطيفي زكي الميلاد كتب هل المثقفون في أزمة؟
باتت الثقة بالدين هي السمة العامة لأبناء الأمة. خروج فرد أو مجموعة أفراد لا يدعوا للقلق، وليس الأمر بجديد، ففي عهد النبي والأئمة كان هناك مرتدون وزنادقة.
أسباب استعادة الثقة:
- استقرار العلاقة بين الدين والعلم. حيث تجاوز الغرب الصدام بين العلم والكنيسة.
- نقد الحضارة الغربية من داخلها. أدرك الغربيون مواقع الخلل فقدموا نقدًا لأنفسهم وكتبوا عن: تدهور الحضارة الغربية، وموت الغرب، وفكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي.
- فشل مشروع التغريب. فهو لم يقدم غير الصراعات التي شغلت الأمة.
- تجلي أطماع الهيمنة الغربية ووضوح دعمهم للاستبداد والصهيونية.
- قراءة التراث الديني بروح التجديد من مفكرين إسلاميين للوقوف ضد الانبهار بالفكر الغربي. مثل مالك نبي، وعلي شريعتي، والشهيد محمد باقر الصدر.
المحور الثاني: تحديات من داخل الحالة الدينية.
قد تكون الأمراض الداخلية أشد خطورة من الخارجية، ولا نلتفت إليها. لأن القدرة على مناقشة الأخطاء الداخلية ضعيف، وفيه خطورة. حيث يواجه المنتقدين القمع وهو ما يبقي على الأخطاء ويزيدها.
ينبغي أن ندرس عزوف أبنائنا عن الدين، لا أن نعزو الأمر كله إلى تأثير الآخر عليهم، هناك نقاط ضعف عندنا ولا بد من مراجعتها وتصحيحها، ومنها:
- سوء الواقع المعاش ونسبته للدين. سيما إذا قارنوا واقعهم مع واقع الغرب ونسب هذا التخلف للدين.
- ظهور تيارات التطرف والتشدد. وقد مارسوا أشد أنواع العنف باسم الدين، وتعمدوا نشر جرائمهم. مما خلف ردة فعل قوية ضد الدين.
- الركود في الممارسة الاجتهادية بما يواكب تطورات الحياة. هذه الحياة متغيرة ومتجددة ولهذا فتح الدين باب الاجتهاد. إلا أن هناك ركودًا على المستوى الفكري والفقهي، ومن أبرز الأسباب هو الممانعة في تقبل الجديد سيما إذا كان يخالف السائد والمشهور. حتى رسائل الفقه مكتوبة بلغة قديمة ولا يُقبل أن تكتب بلغة عصرية سهلة الفهم للجميع!
- ضعف المؤسسات الدينية في أدائها. على المستوى الشيعي والسني. إذ لا تزال تعتمد في إدارتها وطريقتها على الأساليب القديمة، بدل التخطيط والمراقبة والدراسات.
- عدم الاهتمام بالنقد الذاتي واستيعاب الناقدين. يرفضون النقد من أي أحد بحجة عدم الاختصاص، وإذا ما انتقد أهل الاختصاص شككوا في اجتهادهم أو نياتهم! نحن لا نقول بقبول كل ما هو جديد، ولكن نرى فتح المجال وتقبل الآراء ودراستها. لماذا لا نستوعب الناقدين ونصفهم بالخروج عن الدين أو المذهب؟ وحتى لو خرجوا بمقدار 5% استيعابنا لهم خير من أن يخرجوا 50% أو أكثر.
رسول الله تعالى تعامل بالخلق العظيم، والأئمة كذلك. الإمام الصادق كان يستقبل الزنادقة ويناقشونه ويجيبهم. لماذا ننزعج إذا انحرف فكر ابن من أبنائنا ونحاربه؟ نحن بحاجة إلى استيعابه وارشاده. كما يقول الإمام: أحبوه وابغضوا عمله.